الباب الثامن والثلاثون في الإنجيل
أنزل الله الإنجيل على عيسى باللغة السريانية، وقُرىء على سبع عشرة لغة، وأول الإنجيل باسم الأب والأم والابن، كما أن أول القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم. فأخذ هذا الكلام قومه على ظاهره، فظنوا أن الأب والأم والابن عبارة عن الروح ومريم وعيسى. فقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ولم يعلموا أن المراد بالأب هو اسم الله، و الأم كنه الذات المعبر عنها بماهية الحقائق، وبالابن الكتاب، وهو الوجود المطلق لأنه فرع ونتيجة عن ماهية الكنه، قال الله تعالى: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[39 : سورة الرعد]، إشارة إلى ما ذكر، وقد سبق بيانه في محله، وإليه أشار عيسى بقوله: "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ" أن أبلغهم إياه، وهو هذا الكلام ثم قال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} حتى يعلم أن عيسى عليه السلام لم يقتصر على ظاهر الإنجيل، بل زاد في البيان والإيضاح بقوله: "أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ" لينتفي ما توهموه أنه هو الرب وأمه والروح، و ليحصل بذلك البراءة لعيسى عند الله لأنه بين لهم فلم يقفوا على ما بين عيسی لهم، بل ذهبوا إلى ما فهموه من كلام الله تعالى.
فقول عيسى في الجواب: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" على سبيل الاعتذار لقومه، يعني أنت المرسل إليهم بذلك الكلام الذي أوله بسم الأب والأم والابن، فلما بلغهم كلامك حملوه على ما ظهر لهم من كلامك، فلا تلمهم على ذلك؛ لأنهم فيه على ما علموه بالإخبار الإلهي في أنفسهم، فمثلهم كمثل المجتهد الذي اجتهد وأخطأ ففاته أجر الاجتهاد، فاعتذر عیسی عليه السلام لقومه بذلك الجواب للحق حيث سأله : {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى أن قال: {إِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل في قوله: "إن تعذبهم فإنك شديد العقاب" ولا ما شابه ذلك، بل ذكر المغفرة طلبا لهم من الحق إياها حكما منه بأنهم لم يخرجوا عن الحق؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يسألون الحق تعالى لأحد بالمغفرة وهم يعلمون أنه يستحق العقوبة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [114 :سورة التوبة] وهكذا جميع الأنبياء، فكان طلب عيسى لقومه المغفرة عن علم أنه يستحقون ذلك، لأنهم على حق في أنفسهم ولو كانوا في حقيقة الأمر على الباطل، فكونهم على حق في معتقدهم هو الذي يؤول إليه أمرهم، ولو كانوا معاقبين على باطلهم الذي عليه حقيقة أمرهم، ولهذا قال: "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ" ولقد أحسن التلفظ حيث قال بعدها: "فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ" كانوا يعبدونك وليسوا بمعاندين ولا من الذين لا مولى لهم لأن الكافرين لا مولى لهم، لأنهم على الحقيقة محقون، لأن الحق تعالی هو حقيقة عيسى وحقيقة أمه وحقيقة روح القدس، بل حقيقة كل شيء، وهذا معنى قول عيسى عليه السلام: "فإنهم عبادك" فشهد لهم عيسى أنهم عباد الله، وناهيك بها من شهادة لهم، ولذلك قال الله تعالى عند هذا الكلام: {هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}[117: سورة المائدة ] إشارة لعيسى عليه السلام بإنجاز ما طلب، يعني أنهم لما كانوا صادقين في أنفسهم لتأويلهم كلامي على ما ظهر لهم، ولو كانوا على خلاف ما هو الأمر عليه نفعهم عند ربهم لا عند غيره؛ لأن الحكم عليهم بالضلال عندنا ظاهر ما الأمر عليه في نفسه، ولهذا عوقبوا به.
ولما كان مآلهم إلا ما هم عليه به مع الله من الحق وهو اعتقادهم في أنفسهم حقيقة ذلك، فصدقهم في ذلك الاعتقاد نفعهم عند ربهم حتى آلَ حكمهم إلى الرحمة الإلهية، فتجلى عليهم في أنفسهم وما اعتقدوه في عیسی، فظهر لهم أن معتقدهم كان حقا من هذا الوجه، فتجلى عليهم من معتقدهم لأنه عند ظن عبده به فكان الإنجيل عبارة عن تجليات أسماء الذات، يعني تجليات الذات في أسمائه.
ومن التجلیات المذكورة تجليه في الواحدية التي ظهر بها على قوم عيسي في عیسی وفي مريم وفي روح القدس ليشهدوا الحق في كل مظهر من هذه المظاهر،وهم ولو كانوا محقين من حيث هذا التجلي فقد أخطئوا فيه وضلوا، أما خطأهم فكونهم ذهبوا فيه إلى حصر ذلك في عيسى ومريم وروح القدس، وأما ضلالهم فكونهم قالوا بالتجسيم المطلق والتشبية المقيد في هذه الواحدية وليس من حكمها ما قالوه على التقييد، فهذا هو محل خطإهم وضلالهم فافهم.
وليس في الإنجيل إلا ما يقوم به الناموس اللاهوتي في الوجود الناسوتي، وهو يقتضي ظهور الحق في الخلق، لكن لما ذهبت النصارى إلى ما ذهبوا إليه من التجسيم والحصر، كان ذلك مخالفا لما هو في الإنجيل، فعلى الحقيقة ما قام بما في الإنجيل إلا المحمديون، لأن الإنجيل بكماله في آية من آيات القرآن وهو قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}[29 سورة الحجر]، وليست روحه غيره، فهذا إخبار الله تعالى بظهوره في آدم ثم أيضًا : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[53 سورة فصلت] يعني: أن جميع العالم المعبر عنه بالآفاق وفي أنفسهم هو الحق، ثم بين فصرح بقوله في محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}[10 سورة الفتح]. وقوله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[80 سورة النساء] فاهتدى قوم محمد صلى الله عليه وسلم بذلك إلى حقيقة الأمر ولهذا لم يحصروا الوجود الحقي في آدم وحده؛ لأن الآية ما عنت إلا آدم وحده، لكن تأدبوا وعلموا أن المراد بآدم كل فرد من أفراد هذا النوع الإنساني وشهدوا الحق في جميع أجزاء الوجود بكماله امتثالا للأمرالإلهي وهو قوله تعالى: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[53 سورة فصلت] وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فلو أنزلت مثل هذه الآية في الإنجيل لاهتدى قوم عيسي إلى ذلك، ولا يكون هذا، لأن كل كتاب أنزله الله تعالى لا بد أن يهدي به كثيرا و يضل به كثيراكما أخبر سبحانه وتعالى في القرآن بذلك، ألا ترى إلى علماء الرسوم كيف ضلوا في تأويل هاتين الآيتين فذهبوا فيهما إلى ما ذهبوا إليه، ولو كان ما ذهبوا إليه وجها من وجوه الحق، ولكن تحكمت عندهم لها أصول بعدوا بها عن الحق وعن معرفته، وقد اهتدى أهل الحقائق بهما إلى معرفة الله تعالى، فعين ما اهتدي به هؤلاء ضل به أولئك، قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}[26 سورة البقرة].
يقال "فسقت البيضة" إذا فسدت ولم تصلح للتفريخ، فالمراد به هنا قوم فسدت قوابلهم عن القبول للتجلي الإلهي لما تصور عندهم من أن الله تعالى لا يظهر في خلقه بل لا يظهر لهم. ثم لما وجدوا ما يؤيد ذلك من الأصول النزيهة التي حكم فيها بالذات الإلهية وتركوا الأمور العينية أخدوا بالأوصاف الحكمية ولم يعلموا أن تلك الأوصاف الحكمية هي بعينها على كمالها، وبهذا الأمر العيني والوجود الخلقي الحقي، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه بذلك في مواضع من كتابه كما في قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ}[115 سورة البقرة] وفي قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[21 سورة الذاريات] وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ}[30 سورة الروم]. وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}[13 سورة الجاثية].وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله سمع العبد وبصره ويده ولسانه" وأمثال ذلك إلى ما لا يمكن حصره فافهم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.