الفصل الثاني
وسائل تصرف النبي صلى الله عليه وسلم
بالتزكية
وسائل تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالتزكية :
لقد سلك صلى الله عليه وسلم في تزكية أحوال صحابته وترقيتهم في مقامات الدين طرقًا عديدة، ووسائل متنوِّعة، وذلك لكمال علمه صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وعلو رتبته في هذا الشأن، وللتأكيد بأنه النبي والرسول الحق، الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
وهذه أهم الطرق التي سلكها الرسول الأعظم في تربيتهم وتزكيتهم، وهي من باب التمثيل لا الحصر، لأنه صلى الله عليه وسلم لا حدّ لعلمه لكماله.
محبّة المُزكي :
وهذا هو الباب الأعظم، والطريق الأسلم للاستفادة من صحبته والاستمداد منه، والنيل من خيره وعلمه وبركته صلى الله عليه وسلم، وهو أمرٌ أقرَّه الله تعالى في كتابه العزيز إذ يقول : {قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ}[التوبة:24]، لذلك أوجب الله تعالى طاعته وقرنها بطاعته عزّ وجلّ، فقال عز من قائل : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء:80]، وأمر عباده المؤمنين أن يُصلُّوا عليه، قال تعالى : {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56].
وبيّن الحق تعالى أن البرهان على محبّة عباده له، اتباع نبيِّه المصطفى صلى الله عليه وسلّم، فقال عز من قائل : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[آل عمران:31].
وهذا ما صرّح به المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وبيَّنَه، إذ جعل محبَّته شرط كمال الإيمان الذي إذا دخل القلب طهَّره وعمَّره بالخير والصلاح، فظهرت ثمرات ذلك في العمل والسلوك، قال صلى الله عليه وسلم : «لاَ يؤمِنُ أَحَدَكُم حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيهِ مِن وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجمَعِينَ».1
وقال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : «لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الآنَ يا عُمَرُ».2، وبيّن صلى الله عليه وسلّم أن رؤيته خير من الدنيا وما فيها فقال : «..وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ».3
وهذا ما أدركه الصحابة، إذ علموا أن الخير في رؤيته صلى الله عليه وسلم والتملي بالنظر إلى وجهه الكريم، فعن ابن البراء عن البراء قال : «كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عن يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بوَجْهِهِ، قالَ: فَسَمِعْتُهُ يقولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَومَ تَبْعَثُ -أَوْ تَجْمَعُ- عِبَادَكَ».
ولقد عَلِم الصحابة مقام هذا النبي الكريم، وأن ذاته الشريفة معدن الخير، وجوهر الفضل، ومعين الجود الإلهي، لذلك توسلوا وتبرّكوا به صلى الله عليه وسلم.
عن عثمان بن حنيف -رضى الله عنه- أنَّ أَعْمَى أَتَى إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال : "يا رسولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أنْ يَكْشِفَ لي عن بَصَرِي"، قال : "أوْ أَدَعُكَ"، قال : "يا رسولَ اللهِ إنَّهُ قد شَقَّ عليَّ ذَهابُ بَصَرِي"، قال : "فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ ، ثُمَّ صَلِّ ركعتيْنِ ، ثُمَّ قلْ : اللهمَّ إنِّي أسألُكَ ، وأَتَوَجَّهُ إليكَ بِنبيِّي محمدٍ نبيِّ الرحمةِ ، يا محمدُ ! إنِّي أَتَوَجَّهُ إلى ربِّي بِكَ أنْ يَكْشِفَ لي عن بَصَرِي ، اللهمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ ، وشَفِّعْنِي في نَفسي"، فَرجعَ وقد كَشَفَ لهُ عن بَصَرِهِ.5
لذلك كان عمر بن الخظاب يقول : "اللهم إنا كنَّا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا، قال فيسقون".6
** ** **
1 - صحيح البخاري عن أنس، كتاب: الإيمان، باب : حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان.
2 - المرجع نفسه..عن عبد الله بن هشام، كتاب : الإيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم.
3 - المرجع نفسه.. عن أبي هريرة، كتاب المناقب، باب : علامات النبوة في الإسلام.
4 - صحيح مسلم، كتاب : صلاة المسافرين، باب: استحباب يمين الإمام.
5 - صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم : 681.
6 - صحيح البخاري.