السرّ لغة : ما يُكتم كالسريرة والجمع أسرار وسرائر.1
السر عند الصوفية هو ناتج عن عبادته وكثرة ذكره وخلوته مع الله سبحانه وتعالى وكثرة تدبره وتأمله وتفكره، فتظهر له بعض المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى شرح كبير وعبارات إذا ما أراد استخدام اللغة المعتادة، هذه الشعورات والأذواق يكتشف بها سرا من أسرار العبادة.
قال السيد :السرّ لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، وهو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة.2
قال القشيري : يحتمل أنها لطيفة مودعة في القالب، كالأرواح وأصولهم تقتضي أنها محل المشاهدة، كما أن الأرواح محل للمحبة، والقلوبَ محل للمعارف... السرّ ألطف من الروح، والروح أشرف من القلب... ويطلق لفظ السرّ على ما يكون مصوناً مكتوباً مابين العبد والحق سبحانه في الأحوال.3
السرّ: عبارة عن محل التجليات الإلهية وكشف الأنوار الملكوتية للخواص والسر لخواص الخواص. والنفس لأهل عالم الملك، والروح لأهل عالم الملكوت والسر لأهل عالم الجبروت.
قال الساحلي: النفس والقلب والروح والسر والباطن أسماء لمسمى واحد، وهو اللطيفة الربانية التي كان الإنسان بها إنسانا وتختلف أسماؤها باختلاف أوصافها، فإن مالت لجهة النقص سميت نفسا وإن تخلصت من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان سميت قلبا وإن تخلصت منه إلى مقام الإحسان ولكن بقي فيها أثر النقص كأثر الجراحات بعد البرء سميت روحا، وإن ذهبت تلك الأثر وصفيت سميت بالسر وإن أشكل الأمر سميت بالباطن والاختلاف في الروح شهير.4
ومن ثم قيل : بين العبد والرب سر لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وسبب ذلك : أن كل مخلوق مملوء مما أودعه الله تعالى فيه من خصائص : فليس فيه فضلة ليسع ما في غيره ، فما لكل أحد من الله إلا ما هو عليه ذلك الشخص ، غير هذا لا يكون . ولكن قد يكون سر بعض الأشخاص ذاتياً ، فيرجع إليه في الحكم جميع أسرار الموجودات بالضرورة رجوع الصفات إلى الذات ، فيحوي كل ما حواه الوجود إجمالاً وحكماً ، وليس له على التفصيل إلا ما هو عليه عيناً ووجوداً.
المريد والسرّ
عندما يذوق العارف شيئا لا يستطيع أن يصل به باللغة المعتادة فإنه يعجز عن الكلام، وليس أنه سر لا ينبغي أن يقوله حتى لا يُفتن وهذا السر هو أمر شخصي وذوق شخصي يفيد المريد وقد لا يفيد الأشخاص الآخرين، وهي تجربة شخصية، ومن أجل ذلك؛ ضنَّ العارفون على غيرهم بما لهم من علوم ومعارف، واعتبروها "أسراراً" لا تُفشى ولا تُذَاع، إلا أن تكون إشارة لمَّاحة يصدرها الذوق من مواهب الحال، وتستقي من التجربة ولا تُعْطَى هباءً منثوراً لكل من هَبَّ فيها ودَبَّ؛ فكما أنها لم تُحَصَّل إلا بالجهد والمعاناة، فكذلك لم تُبذل إلا لمن هو حقيق بها؛ وخليق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد العارفين، قد أشار إلى هذه المعارف الشخصية والخصوصية التي لا تُذاع على عامة الناس لأنهم ليسوا مطالبين بها من طرف الشريعة الإسلامية.
«عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، أَطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لله تَعَالى، واللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُم بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرجْتُمْ إِلى الصُّعُداتِ تَجْأَرُون إِلى اللَّه تَعَالَى».5
فالنبي صلى الله عليه وسلم بَلَّغَ أمانة الإسلام إلى كافة الأمة الإسلامية كاملة فيما أمره الله -عز وجل-، أما فيما اختص به من تذوقه "أسرار العبودية" أو اطلاعه على "أسرار الكون" فيما لا يمكن استيعابه وفهمه من طرف غيره من المسلمين، فإنه لم يتم تكليفه بإرهاقهم بتفاصيله.
تفسير السرّ
لا يتم تفسير السرّ إلا من طرف شيخ عارف بالله -عز وجل- يدل المريد على فحوى ومعنى وطبيعة الأسرار التي تتوارد على قلبه وحواسه.
وفي الصدر الأول من الإسلام، كان الصحابة -رضي الله عنهم- يعرضون أسرارهم على قدوتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث الذي رواه الحارث بن عدي بن مالك -رضي الله عنه- حول حقيقة الإيمان.
«عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا. فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ، ثَلاثًا».6
ذلك أن الشيطان الرجيم يحاول أن يستدرج المريد نحو البدعة والزندقة من خلال محاولة إيهامهم بخدع صوتية وبصرية ووسواسية لا ينجو من مخالبها ومثالبها إلا العارفون الموفَّقون.
فقد كان الشيخ عبد القادر الجيلاني من الصالحين وكان من أولياء الله الذين ظهرت عليهم بعض الكرامات، فحاول الشيطان استدراجه نحو البدعة والانحراف، فاستطاع كشف حيلة الشيطان بسبب معرفته بالفرق بين "السر الرباني" و"الإفك الشيطاني".
«يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: كُنْتُ ذات مرة جالساً في خلوتي أذكر الله وأسبحه، فإذا بالخلوة تمتلىء نوراً ما رأيت ألذ منه، ثم سمعت صوتاً ما سمعت أجمل منه قط.
فقال له الصوت: يا عبد القادر؟ فقلت: لَبَّيْكَ!!!
ثم قال له الصوت: لقد أحببناك يا عبد القادر. فقال الشيخ: لقد ذوبت ذوباناً كما يذوب الملح في الماء، وظن أن الله أرسل له ملكاً يكلمه أو أن الله سيكلمه كما كلم نبى الله موسى -عليه السلام-.
وقال له الصوت: ولقد قربناك يا عبد القادر. فقال الشيخ: فاقشعر جلدي.
ثم قال له الصوت: أنا ربُّك يا عبد القادر. فقلت: لَبَّيْكَ رَبِّي، لبيك.
فقال له الصوت: أحللنا لك الحرام يا عبد القادر. فتبدل حال الشيخ وقال لصاحب هذا الصوت: اذهب يا لعين.
فانطفأ النور، وشعرتُ ببردٍ وظلمة، وسمعت صوتا ما سمعت أقبح منه قط وهو يقول: عِلْمُكَ نَجَّاكَ يا عبدالقادر. والله لقد أخرجت سبعين ولياً من ديوان الولاية بها».
** ** **
1 - ينظر القاموس المحيط
2 - التعريفات للجرجاني،ص:69
3 - الرسالة القشيرية
4 - معراج التشوف إلى حقائق التصوف
5 – سنن الترمذي
6– المعجم الكبير للطبراني