فهذه كلها علل أنف الخواص منها، وأسباب انفصلوا عنها، فلم يبق لهم مع الحق إرادة، ولا في إعطائه تشوق إلى استزادة. فهو منتهى مرادهم، وغاية رغبتهم، فيعتقدون أن ما دونه قاطع. قال الله تعالى : {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام:91]، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ}[الأنعام:19]. وإنما زادهم جمع الهمّة عن تفرقات الكون، لأن الحق عافاهم بنور الكشف عن التعلُّق بالأحوال. { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴿46﴾ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}[ص:45-46].
وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق لهم وتخلصهم من تدبيرهم ،وفراغ هممهم من إحالتها في إصلاح شؤونهم لوقوفهم على فراغ المدبر منها وجريِها على علمه بمصالحهم فيها، فنقوسهم مطمإنة بذلك {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}[الفجر:27]، وجبرهم صون قلوبهم عن خواطر السوء فإنه ليس لله تعالى قضاء عاريا من الرأفة، خارجا عن الخيرة {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}.[الأنفال:17]
وحزنهم يأسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديات:6]، وخوفهم هيبة الجلال لا خوف العذاب فإن خوف العذاب مناضلة عن النفس وظن بها. وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50].وقال في حق العوام : {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.[النور:37]
ورجاؤهم ظمأهم إلى الشراب الذي هم فيه غرقى وبه سكرى {أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}.[الفرقان:45]
وشكرهم سرورهم بوجدهم واستبشارهم بلقائه {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}.[التوية:111]
ومحبتهم فناؤهم في محبة الحق لهم فإن المحاب كلها ظلت في محبة الحق لأحبابه {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}.[يونس:32]
وشوقهم هربهم عن رسمهم وسماتهم استعجالًا للوصول إلى غاية المنى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ}.[طه:84]