ثم ذكر علامة التعبير الذي يسبقه التنوير والذي يسبقه التكدير فقال :
(كُلُّ كَلاَمٍ يَبْرُزُ وَعَلَيْهِ كِسْوَةُ الْقَلْبِ الَّذِى مِنْهُ بَرَزَ)
قلت : علامة الكلام الذي يسبقه التنوير : هو تأثيره في القلوب، وتهييجه الأرواح، وتشويقه الأسرار، فإذا سمعه الغافل تنبَّه، وإذا سمعه العاصي انزجر، وإذا سمعه الطائع زاد نشاطه وعظم شوقُهُ، وإذا سمعه السائر طوى عنه تعب سيره، وإذا سمعه الواصل تمكن من حاله.
فالكلام صفة المتكلم، فإذا كان المتكلم ذا تنوير وقع في قلوب السامعين، وإذا كان ذا تكدير فَحَدُّ كلامه آذان المستمعين، فكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز، ولذلك قال سيدنا عليُّ كرَّم الله وجهه : "من تكلم عرفناه من ساعته، ومن لم يتكلم عرفناه من يومه".
وقيل : "الناس حوانيت مغلقة، فإذا تكلموا فقد فتحوا، هناك يتبين البيطار من العطار. وقالوا أيضاً: الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حده الآذان، وإنهاض الحال أكثر من المقال، وإذا اجتمع الحال والمقال فهو البحر الطام، والنجم الثاقب التام".
وقال بعض العارفين: من كان قلبه روحانياً كان كلامه معنوياً ينزل من القلوب في أوسع ساحاتها، ومن كان قلبه نفسياً كان كلامه حسياً. يعني لا يتكلم إلا في الحس ولا يخوض إلا فيه. ومن طمس أذن قلبه حجب الدنيا فلا يسمع ولا يسمع".
وقد يكون من الناس من هو عالم اللسان جاهل القلب، وعلامته ترجيح حديث الدنيا على حديث الآخرة أو حديث الحس على حديث المعنى، ومن مثل هذا الحذر الحذر لأن قلبه ميت فكلامه كله على الميتة والميتة هي الجيفة.
قال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا جيفة وطلابها كلاب".
فمن تكلم على الدنيا فمثله كالكلب، ولا خير في كلب ولو كان عالماً قاله الشطيبي.
ثم إن هذه الكسوة التي تبرز على الكلام إنما هي من نتائج الإذن من الله فيه، وأما إذا لم يكن إذن فيه فلا كسوة عليه كما أبان ذلك بقوله :
(مَنْ أُذِنَ لهُ في التَّعْبيرِ فُهِمَتْ في مَسامِعِ الخَلْقِ عِبارَتُهُ، وَجُلِّيَتْ إلَيْهِمْ إشارَتُهُ)
قلت : الإذن في التعبير إنما يكون على يد الشيخ الكامل العارف الذي أهَّلَهُ الله للتربية ونصَّبهُ للتوصيل والترقيَّة، فإذا رأى على تلمذه أهلية التذكير أذن له في التعبير، فإذا عبَّر أخذ بمجامع القلوب وفاض من لسانه أسرار علم الغيوب، فتحسن في مسامع الخلق عبارته، وتجلى إليهم إشارته، أي تظهر وتفهم، ولا عبرة عند المحققين بلحن الكلام وإعرابه ولا خطأ في رفعه ونصبه من صوابه، وإنما العبرة بالمعاني دون القوالب والأواني.
يحكى أن بعض النحويين دخل مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كلامه، فوجده يلحن فانصرف ذامًّا له، فبلغ ذلك الحسن، فكتب له : "إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، فاعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك، وإنك قد تهت بين خفض ورفع ونصب وجزم، فانقطعت عن المقصود هَلَّا رفعت إلى الله جميع الحاجات، وخفضت كل المنكرات، وجزمت عن الشهوات، ونصبت بين عينيك الممات، والله يا أخي ما يقال للعبد لِمَ لَمْ تكن معرباً، وإنما يقال له : لِمَ كنت مذنباً. ليس المراد فصاحة المقال وإنما المراد فصاحة الفعال، ولو كان الفضل في فصاحة اللسان لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا موسى حيث يقول : {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}[القصص:34]انتهى. ومما ينسب للخليل رحمه الله أو لسيبويه :
لسانٌ فصيحٌ معرب في كلامه فياليته من وقفة العرض يسلم
ولا خيرَ في عبدٍ إذا لم يكُن تقيَّا وما ضرَّ ذا تقوى لسانٌ مُعجم
وقال آخر :
مُنْحَرِفٌ بالفِعَالِ وذو زَلَلٍ * وإن تكلم في جِدَالِهِ وَزَنَه
قال وقد كتبتْ لفظتُهُ * تِيهًا وعُجْبًا أخْطَأَ ما لَحَنَهْ
وإنما أخطأ من قام غدا * ولا يُرَى في كتابه حَسَنَهْ
وكان شيخ شيخنا رضي اللّه تعالى عنه إذا ذكر من تقدم له في العربية يقول له : أنت اترك شيئا من عربيتك ، وأنا أترك شيئا من “ جبليتي “ ، يعني من اللغة الجبلية ، ونلتفت للطريق .
والحاصل أن من اجتمع فيه الحال وفصاحة المقال فهو كمال الكمال، وذلك لأنه ينتفع بكلامه بعد موته كالغزالي والششتري والشاذلي والمرسي والشيخ رضي اللّه عنهم، فقد عظم النفع بكلامهم وأعظمهم المؤلف رضي اللّه تعالى عنه، فقد حاز قصب السبق في التعبير، ونسخت كتبه كتب القوم، وقد شهد له شيخه بهذا المعنى : فقال : واللّه لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعيا يدعو إلى اللّه، وقال له : واللّه ليكونَّنَّ لك شأن عظيم ، واللّه ليكونن لك شأن عظيم. وقال فيه أيضا حين نسخ له كتاب "التهذيب" : واللّه لأجعلنك عينا من عيون اللّه يقتدي بك في علم الظاهر والباطن. وقال فيه أيضا : واللّه ما أرضى له بجلسة جدِّه ولكن بزيادة التصوف. وكان جده فقيها شرح "المدونة "1، اسمه : عبد الكريم ، وكلام الشيخ يدل على مقامه، وما تخلص التصوف ولا تهذب إلا على يديه ، فقد قرب المدارك وبين المسالك في أحسن عبارة ، وأوجز لفظ وإشارة ، جزاه اللّه عن المسلمين خيرا.
***
المدونة : كتاب في فروع المالكية لأبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم المالكي المتوفى سنة 191 ه.