العبد يعرف الخواطر، ويميز بينها، وذلك بأن يعرضها على العلم والأمر والنهي، فما يصح منها في ضوء ذلك فهو الصحيح، وما لا يصح فهو باطل يجب طرحه.
وألطف من ذلك مسألة أخرى هي أنه ربما يكون العبد قد وصل إلى حال شريفة، ويريد الشيطان أن يرده عنها إلى حال أدنى من تلك الحال، فيدخل عليه الشيطان ويخطر بباله. ولكن العبد حينما يعرض ذلك الخاطر الدخيل على العلم وعلى الأمر والنهي يكون صحيحا مع أنه من الشيطان. ولكن هذا العبد العارف يعرف بمقدار معرفته حقيقة الأمر وقلَّ في الناس من يفطن إلى ذلك.
إن العبد يعرف حقيقة الأمر بأنه يشعر بوحشة تعود عليه منه، ولهذا فحينما يصل إلى القلب ويرده عليه يصرفه القلب فورًا لأنه يوجعه كأنما هو طعام ليس به ملح.
فالعبد إذًا يعلم حقيقة الأمر المريب بما له من وحشة وسماجة، إذن ليس ذلك من لدن الحق سبحانه بل من الشيطان مهما كان ظاهره، حتى ولو دعا إلى طاعة : كالأمر بالحج أو بر الوالدين مثلًا.
وإنما قصد الشيطان أن يرتج على العبد بردِّه من الحالة العليا إلى الحالة الدنيا، ويريد الشيطان أن يربح مراده في هدا العبد بهذا المقدار.
كذلك فإن هذا الخاطر الذي من الشيطان إنما يعلم أنه منه بكونه ضدًّا للحال التي عليها العبد، ومع أن الشيطان ربما يصور للعبد أن تلك حالة أعلى من حالته إلا أنه يكون ضدًّا لما بالعبد في ميزان الاستحلاء والوحشة. أما إذا كان الخاطر من الحق سبحانه فإنه يجد الشكلية لما مع العبد فيتفقان، كشخصين متفقين في الصنعة والهمة يلتقيان ويتفقان، أما إذا كانا ضدين في الحرفة فإنهما يتزاحمان. وكذلك شأن العبد : إذا كان على خاطر من الحق سبحانه، ومعه ما معه من الصناعة ورأس المال فإذا ورد عليه شيء من الشيطان عند ذلك استطاع أن يفرق وأن يميز بينه وبين ما هو عليه في ميزان الضدية والشكلية، أي بين وارد الشيطان - لعنه الله - وبين وارد الحق جلّ وعلا.
هذه الخواطر والأحوال التي ترد على العبد لها أصوات يسمعها العبد، وهي أحلى ما يكون حتى كأنها ألذ وأطرب وأشهى من أصوات الأوتار والمزامير والبرابط(1)، كلها أصوات حلوة حسنة.
ولكن قد يأتي الخاطر من الشيطان بحلاوة أيضًا، بل ربما كان أتم حلاوة - في الصورة - من هذا الذي عليه العبد، ولكن مع فلك، ومهما ألح الشيطان على العبد لا يعود عليه أنس أو راحة.
ولذلك فإنه إذا كانت للعبد هذه الأحوال الشريفة ووردت عليه خواطر من طرف الشيطان فإن العبد يتوصل إلى أنها من الشيطان، وذلك لِما يجد بينها وبين ما عنده من الحق في ميزان الوحشة والاختلاف.
أما إذا لم يكن للعبد شيء من الحق من الأحوال الشريفة فإنه لا يتوصل على وجه الاستيقان، هل هي من الشيطان أم من الحق. على أنه إذا قوي في الذكر ترقى بالتدريج إلى سماع الأصوات المؤنسة، فإذا ما ورد عليه خاطر من الشيطان بعدئذ ميزه بالضدية لما بينه وبين ما صار لديه من الحق سبحانه.
** ** **
1 - كلمة فارسية مفردها (بربط) وهو آلة موسيقية ذات أوطار كالعود.
الكتاب : ترتيب السلوك في طريق الله تعالى
المؤلف : أبو القسم القشيري