كتاب : رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأنوار
المؤلف : محيي الدين بن عربي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله واهب العقل ومبدعه، وناصب النقل ومشرعه، له المنَّة والطَّول، ومنه الحول والقوة، لا إله إلا هو ربّ العرش العظيم .
وصلّى اللّه على من أقام به أعلام الهُدى ، وأنزله بالنور الذي أضلّ به من شاء وهدى، وسلم على آله الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أجيب سؤالك أيها المولى الكريم والصفي الحميم في كيفية السلوك إلى رب العزة سبحانه وتعالى، والوصول إلى حضرته، والرجوع به من عنده إلى خلقه من غير مفارقة.
فإنه ما تمَّ في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله. قال : فالكل هو، وبه، ومنه، وإليه، ولو احتجب عن العالم طرفة عين لفني العالم دفعة واحدة، فبقاؤه يحفظه، ونظره إليه، غير أنه من اشتدّ ظهوره في نوره بحيث أن تضعف الإدراكات عنه فيسمّى ذلك حجابًا.
فأول ما أبيِّنه لك وفّقك الله، كيفية السلوك إليه، ثمَّ كيفية الوصول والوقوف بين يديه والجلوس في بساط مشاهدته، وما يقول لك، ثمَّ كيفية الرجوع من عنده إلى حضرة أفعاله به وإليه والاستهلاك فيه، وهو مقام دون الرجوع.
فاعلم أيها الأخ الكريم أن الطرق شتّى وطريق الحق مفردة.
والسالكون طريق الحقّ أفراد، ومع أن طريق الحق واحدة فإنه يختلف وجوهه باختلاف أحوال سالكيه، من اعتدال المزاج وانحرافه، وملازمة الباعث ومغيبه، وقوّة روحانيته وضعفها، واستقامة همّته وميلها، وصحّة توجُّهه وسقمه. فمنهم من يجتمع له، ومنهم مَن يكون له بعض هذه الأوصاف.
فقد يكون مطلب الروحانيّة شريفًا، ولا يساعده المزاج، وكذلك ما بقي.
قأول ما يعين علينا أن نبيِّن لك، معرقة المواطن، كم هي، وما تقتضي، وما أريد منها هاهنا.
والمواطن عبارة عن محلّ أوقات الوارد الذي تكون فيه، وينبغي لك أن تعرف ما يريده الحق منك في ذلك الموطن، فتبادر إليه من غير تَثَبُّطٍ ولا كلفة.
والمَواطن إن كثُرت فإنها ترجع إلى ستة :
الأول : موطن (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)[الأعراف:172]وقد انفصلنا عنه.
والثاني : موطن الدنيا التي نحن الآن فيها.
والثالث : موطن البرزخ الذي يصير إليه بعد الموت الأصغر والأكبر.
والرابع : موطن الحشر الساهرة والرد في الحافرة.
والخامس : موطن الجنة والنار.
والسادس : موطن الكثيب خارج الجنة.
وفي كل موطن من هذه المَواطن مواضع هي مواطِن في الوَطن ليس في القوة البشرية الوفاء بها لكثرتها، ولسنا نحتاج في هذا الموضع منها إلّا موطن الدنيا الذي هو محل التكليف والابتلاء والأعمال.