آخر الأخبار

جاري التحميل ...

روح القدس فى مناصحة النفس


قلت : هذا أبو عبد الله ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم روينا عنه بالسند الصحيح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : من يتقبل لي واحدة تقبلت له الجنة ، قال : أنا يا رسول الله ، قال : لا تسأل أحد شيئا ، فكان رضي الله عنه ربما سقط السوط من يده وهو على بعيره فلا يسأل أحد أن يناوله إياه حتى ينزل إليه ويأخذه ، ناشدتك الله يا نفس هل قدمت في مخاطباتك هذا الإقدام على أمر مجهول ؛ ثم لو أقدمت عليه هل كنت تفي به هذا الوفاء ولا تجنحي إلى تأويل فيه لحصولك في مقام أنت فيه بحكم التخيير ؟ قالت : كل لم يكن مني ، قلت : لِما فلا مع الأحرار ولا مع الموالي ، فصغرت وقالت : انتقل بي عن هذا .

قلت نعم هذا عثمان بن عفان رضي اللّه عنه روينا عنه بالسند الصحيح عن شرحبيل بن مسلم أن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه كان يطعم الناس طعام الإمارة ويدخل بيته فيأكل الخبز والزيت، ناشدتك اللّه هل فعلت هذا مع أصحابك قط آثريتهم باللطيف واستأثرت بالخشن ؟ فقالت : لا واللّه، بل كنت على أحد وجهين معهم إن لم يكن عندي طعام غير ما جعلت بين أيديهم شاركتهم فيه، وإن كان عندي أرق منه أكلت وحدي ذلك مثل الحلو أو الخشكنان وغير ذلك، وأقول هذا غداء لين لي وألبس على نفسي بهذه الترهات حتى لا أتنغض به عند أكله وأقول هذه الإخوان في مقام التربية فينبغي أن لا أزرع حب الشهوات في قلوبهم بإطعامي لهم مثل هذا، ومقامي لا يؤثر فيه هذا الطعام فلا بأس بتناولي إياه، فآكله على هذا الحال وقد عميت عن مطالبة الحق في موازنة المعاشرة وأدناها أن أشاركهم في خشونتهم لما أعرفه من تأثير الحقائق، ولا شك أن عثمان رضي اللّه عنه ما فعل هذا في بدايته فتجد عنه مندوحة، وإنما فعل هذا بعد التمليك قلت، لها بارك اللّه فيك يا نفس إذ أنصفتيني، قالت : الحق أحق أن يتبع، هات غيره.

قلت لها : نعم هذا علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه باب مدينة العلم النبوي وصاحب الأسرار وإمامها روينا بالسند الصحيح عن ضرار بن ضمرة الكندي قال : "أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلِيًّا فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ اَلسَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ وَ هُوَ يَقُولُ لِلدُنْيَا : أَ بِي تَغَرَّرْتِي أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّفْتِي، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي،قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثا، فَعُمْرُكِ قَصِيرٌ وَمَجْلِسُكِ حَقِيرٌ،وَخَطَرُكِ كَثِير، وَآهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وَ بُعْدِ اَلسَّفَرِ وَوَحْشَة اَلطَّرِيقِ...". رويناه من حديث نوف البكالي قال : رأيت علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه خرج فنظر إلى النجوم فقال:" يا نوف، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بلى بل رامق يا أمير المؤمنين ، فقال : "يَا نَوْفُ، طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ،أُولئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً، وَتُرَابَهَا فِرَاشاً، وَمَاءَهَا طِيباً،وَالدُّعَاءَ وَالقُرْآنَ دِثَاراً وَشعَارًا، قَرَضُوا الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامَ ".

يا بحورًا تحتوي عليها هذه الألفاظ الرائقة البليغة ليس لها سواحل، ناشدتك اللّه يا نفس، هذا علي رضي اللّه عنه على تمكنه فيما تدعيه من المقام والحال، قد علم المقام وعمله وأحكمه، ووفَّى الحقائق حقها على أتم الوجوه، ولم يجنح إلى تلويحات الأحوال كما فعلت أنت، وأكثر العارفين في زمانك الذين انبسطوا بعد قبضهم، وأنسوا بعد هيبتهم، وجمعوا المال بعد ما كانوا رموا به، فرجعوا فرجع عنهم، فتخيلوا أنهم في الحال وهم في الفائت، أنظري يا نفس تمكنه في المعارف، وتبرزه في صدور المواقف، وضربه بيده إلى صدره فيقول : "إن ههنا لعلوما جمَّة لو وجدت لها حملة".

وهذا عمله في خلوته يخاطب دنياه بلسان مولاه توحيدا مكملا، وتمييزا محققا، لم يخلط بين الحقائق، ولا أدْخل الرقائق، بعضها على بعض، أحكم الحال والمقام، وعلم أنها ليست بدار مقام، فعاملها معاملة الراحل، فعل الحكيم الحازم، لم تحجبه مخاطبته لدنياه بلسان الهجر والقلا، وتحسر على قلّة الزاد، وبعد الطريق، وذكر الوحشة بعد تحصيل الأنس، وتبسيطه الدارين على منهاج من وجد شيئا من غير شهوة، فلم يعلق بقلبه كون، ولم يحجبه ذلك كله عن تحققه في المشاهدة، بل (زاده) ذلك تمكين على تمكين حيث أعطى الموطن حقه، وأنصف ربه ونفسه ودنياه وآخرته، فبقي حرا في وقته، آتى كل ذي حق حقه في نفسه. أنشدك اللّه يا نفس على معرفتك القاصية، ومشاهدك الدانية، هل صاحبت هذا الحال استصحاب هذا الإمام ؟ قالت : لا، والله إنما هي بوارق تلمع واهلة، تطلع في أوقات دون أوقات، والغالب الشتات، بل ندعي ومن رأيت من المشيخة التصرف فيها والأخد من طيباتها من جهة الحقائق الإيجاد السلبي والاستخلاف الذي صحَّ لي وهو نقص في الحكمة حيث لم أكن مثل علي رضي الله عنه بحكم الموطن، والله ما لي شبه إلا بمن غاط في المسجد وصلى بالمرحاض. وهكذا كل من وسَّع على نفسه في الدنيا من عال ودون فالكل والله تافه وفي العماية تائه، وإنا لله وإنا إليه راجعون. 

لولا أني أريد أن أقف على أحوال هذه السادة لطويتُ معك بساط المناظرة، وعدلنا عن هذه المحاضرة، فقد رماني والله هذا الإمام بداهية ما أريد لها ناهية، وقاصمة ما أرى لها عاصمة، وقد أسلمتُ لبرهان العلم، واستسلمتُ لسلطان الحكم، ومَن مثل علي وهذا كلامه، لو لم ينبه لغفلتنا عن شرف منزلته إلا بسكون الحصى في كفه لكان ذلك تنبيهًا لكل قلب نبيه، فيا سوء ما كنت فيه، جزاك الله عني خيرًا، زدني زادك الله حكمة وإيمانًا وحفظًا وبيانا.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية