آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -65

ثم بيَّن رضي الله عنه الكلام الذي لم يؤذن لصاحبه في التعبير عنه، فقال :

185 - رُبَّمَا بَرَزَتِ الْحَقَائِقُ مَكْسُوفَةَ الأَنْوَارِ، إِذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَكَ فِيهَا بِالإِظْهَارِ.

قلت : قد يتكلم الإنسان بحكم وحقائق مع فصاحة وبلاغة، وشقاشق لكنها مسكوفة الأنوار مطموسة الأسرار ليس فيها حلاوة ولا عليها طلاوة، سبب ذلك عدم الإذن فيها، إذ لو أذن له في التعبير لظهر عليها كسوة التنوير.
قال في لطائف المنن : من أجَلِّ مواهب الله لأوليائه وجود العبارة. قال : وسمعت شيخنا أبا العباس يقول : "الوليُّ يكون مشحوناً بالمعارف والعلوم، والحقائق لديه مشهورة حتى إذا أعطي العبارة كان ذلك كالإذن من الله في الكلام". وقال : "وسمعت أبا العباس يقول : كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار، حتى أن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة فتُقبل من أحدهما وتُرَدُّ على الآخر".

قلت : وينبغي لأهل التعبير أن يخاطبوا الناس بقدر ما يفهمون فليس التعبير لأهل البداية كأهل النهاية. وفي الحديث : (خَاطِبُوا النَّاسَ بِقَدْرِ مَا يَفْهَمُونَ". نعم أن ضاق الوقت على التفريق جمع الكل. وذكر في البداية والوسط والنهاية وكل واحد يأخذ نصيبه ويشرب من منهله {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}[البقرة:60] وهذه كانت طريقة الجنيد رضي الله عنه، يلقى الحقائق على رؤوس الأشهاد فقيل له في ذلك فقال : علمنا محفوظ أن يأخذ غير أهله. أو ما هذا معناه.

ثم عبارتهم بعد الإذن لا تكون إلَّا لحكمة بيَّنها الشيخ بقوله :

186 - عِبَارَاتُهُمْ إِمَّا لِفَيَضَانِ وُجْدٍ، أَوْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ مُرِيدٍ

قلت : ما اشتملت عليه قلوب العارفين من المعارف وأسرار التوحيد وغوامض العلوم التي لا تطيقها جل الفهوم، هو سر من أسرار الله وهم أمناء الله عليها، فلا يطلعون عليها إلَّا من رأوه أهلا لها، إلَّا من كان مغلوباً على حاله لا يقدر على إمساكها، وهو من لم يتمكن من حاله فيها، فعبارتهم إذاً إما لفيضان وجد غلبه فلم يقدر على إمساكها أو لأجل هداية مريد وإرشاده، وترقيته إلى مقام استحق الاطلاع عليه، وإلا فلا يظهرون من تلك الأسرار قليلاً ولا أقل من القليل، وقد تقدم قول بعضهم :

قلوبُ الأحرارِ ... قبورُ الأسرار
وقال آخر :
لا يكتُمُ السرَّ إلّا كلُّ ذي ثقةٍ ... فالسرُّ عندَ خيارِ الناسِ مكتومُ
ثم بيَّن حال الفريقين ومقام الرجلين، فقال :
الأول : (حال السالكين) وهم المستشرفون من السائرين، حققوا ولم يتمكنوا فهم مملوكون في يد الأحوال إذا غلب عليهم الوجد فاضوا ولم يشعروا وإذا رجعوا إلى أنفسهم ندموا واستغفروا.
ثم بيَّن حال الثاني فقال : 
والثاني : (حال أرباب المُكنة والمتحققين). وهم الراسخون المتمكنون فلا يعبرون عن تلك الأسرار إلّا لأجل هداية المريدين وتربية السالكين وترقية السائرين، وأما لغير هؤلاء فلا، فإن عبر عنها السالك لا عن غلبة وجد، كان في ذلك نوع من الدعوى، وإن عبَّر عنها المتمكن من غير قصد هداية كان في ذلك إفشاء لأسرار الربوبية، وهي عندهم أعزّ من الكبريت الأحمر، وقد كان الرجل يخدمهم سنين فلا يظهرون له منها قليلاً ولا كثيراً، حتى إذا رأوا أعطى نفسه وفلسه وبذل روحه بالكلية أشاروا إليه إشارة خفية.

فقد ذكر شيخ شيوخنا سيدي علي [الجمل] في كتابه : أن طائفة من المريدين خدموا شيخاً ثلاثين سنة ثم قالوا له : يا سيدنا أردنا أن تعرِّفنا بربنا، فقال لهم : نعم غدا ائتوني لداري. فلما أتوه أخرج لهم صبياً صغيراً فوجهه إليهم ثم دخل. فانظر هذه الإشارة ما ألطفها وأخفاها. ثم مَنَّ الله على أهل هذا الزمان برجال كرام من صحبهم بالصدق منحوه من الأسرار في يسير من الزمان ما لم يدركه المتقدمون في الأزمنة الطويلة، جزاهم الله عن الأمة المحمدية خيراً.

وقد تلكم الشيخ أبو الحسن على حال السالكين والواصلين بكلام طويل ذكره في لطائف المنن، ونقله الشطيبي فقال : إن الله عباداً محق أفعاله وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته، وحمَّلهم من أوصافه ما يعجز عن سماعه عامة الخلق، فهم مغرقون في بحر الذات وتيار الصفات، فنوا عن أفعالهم ثم فنوا عن صفاتهم ثم فنوا عن ذاتهم وبقوا بذات الله تعالى ولم يبق لهم منهم شيء، ومن كان في الله تلفه كان على الله خلفه، ومن صحَّ فناؤه صَحَّ بقاؤه.

ثم قال : واعلم أن الفنا يوجب الغيبة عما سوى الله، قلت : وهو مقام السالكين، والبقاء يوجب إيجاد كل شيء مع الله، يعني بالله، فصاحب الفناء يقوم الله عنه وصاحب البقاء يقوم بالله عن الله، وهما ولايتان، فولي يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وولي يتولاه الله وهو يتولى الصالحين.

قال الشيخ أبو الحسن : (وعلامة الولاية الرضى بالقضاء، والصبر على البلاء، والفرار إلى الله عند الشدائد، والرجوع إليه عند النوائب، فمَن أُعطيَ هذه الأربعة من خزائن الأعمال والمجاهدة فقد صحت ولايته لله ورسوله وللمؤمنين، ومن أعطيها من خزائن المنن والمواددة فقد تمَّت ولاية الله له، فالولاية الأولى ولاية صغرى، والولاية الثانية ولاية كبرى، قيل له : كيف يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، قال : يتولى الله بالمجاهدة لقوله تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: 69]، ويتولى الرسول بالمتابعة : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه}[آل عمرتم:31] {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه}[النساء:80،] ويتولى المؤمنين بالاقتداء بهم وهي علامات من خاض بحر الولاية، وأما الذين تولاهم الله فهم الذين صلحوا لحضرته وغابوا عن خليقته فلا يرون في الوجود إلَّا الله، الأولي تسمى ولاية إيمان، وهذه ولاية إيقان. فقيل له : وما الفرق بين الإيمان والإيقان، قال : كل يقين إيمان وليس كل إيمان إيقاناً، فالإيمان ربما تدخله الغفلة والإيقان لا تدخله الغفلة، المؤمن يتجلى له الحق دون كل شيء، والموقن يتجلى له الحق في كل شيء، المؤمن فان عن كل شيء فلم يشهد مع الله شيئاً، والموقن باق في كل شئ فهو يشهد الله في كل شيء).

ثم بيَّن المؤلف رضي الله عنه فائدة التعبير وثمرة العبارة فقال :

 187 - الْعِبَارَة قُوتٌ لِعَائِلَةِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَيْسَ لَكَ إِلاَّ مَا أَنْتَ لَهُ آَكِلٌ.

قلت : العائل هو الفقير، والعائلة جمع له، فعبارة العارفين قوت لقلوب الفقراء الطالبين لزيادة إيقان قلوبهم ومشاهدة محبوبهم، فلا يزالون في حضانة الشيوخ وعيالهم، حتى يكمل إيقانهم وترشد أحوالهم، فحينئذ يستقلون بأنفسهم، وعلامة رشدهم أنهم يأخذون النصيب من كل شيء، ولا ينقص من حالهم شيء، يفهمون عن اللّه في كل شيء، ويعرفون في كل شيء، ويشربون من كل شيء، فإذا كانوا كذلك فقد استقلوا بأنفسهم، وتأهلوا لإرشاد غيرهم.

قال بعض الحكماء : من لم يفهم صرير الباب، ولا طنين الذباب، ولا نبيح الكلاب ، فليس من ذوي الألباب .

وأما من لم يبلغ هذا المقام فلابد أن يلزم العش في حضانة من يرزقه ويطعمه، فإذا طار من العش قبل تربية الجناح اصطادته الكلاب والبيزان، ولعبت به النساء والصبيان، فإذا كان في عش الشيخ، وكان يطعمه مع غيره، فليس له من القوت إلا ما يقدر أن يأكله، وإلا قتله، فليس طعام الصبي الصغير كطعام الرجل الكبير، وكذلك عبارة الشيوخ للمريدين :

كل واحد يأخذ ما يليق بحاله، فالشيوخ يذكرون في الجملة، فيذكرون أحوال البدايات والنهايات والوسط، وكل واحد يأخذ ما يليق به، قوله تعالى : {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} [ الأعراف : 160 ]، فلا يتعلق المبتدئ بمذاكرة المنتهي فيفسد، كما إذا أكل الطفل الصغير طعام الكبير يقف في حلقه، وإذا أكل الكبير طعام الصغير لا يشبعه، هذا معنى قول الشيخ : وليس لك منها إلا ما أنت له آكل : أي ليس لك من قوت العبارة إلا ما أنت قادر على أكله، وإلا غصصت به،واللّه تعالى أعلم. 

وقد سألني بعض الإخوان عن قوت الروحانية والبشرية، فقلت : قوت البشرية معلوم، وقوت الروحانية على وزان قوت البشرية، فالصبي لا يطيق الطعام الخشن حتى يكبر، كذلك الروح تربى شيئا فشيئا : فتطعم أوَّلًا ذكر اللسان فقط، ثم ذكر القلب مع اللسان، ثم ذكر القلب فقط، ثم ذكر الروح وهو الفكرة، ثم ذكر السر وهو النظرة، ثم تأكل كل شيء، وتشرب من كل شيء ، حتى تسرط الكون بأسره، فلو أعطيتها الفكرة أو النظرة الذي هو طعام الرجال أول مرة وهي في مقام الأطفال للفظته وطرحته، فإذا بلغت الروح أن تأكل كل شيء، وتشرب من كل شيء، فقد صح لها أن تطير في الملكوت الأعلى، وتذهب حيث تشاء، وقد يختلف الشرب لجماعة من آنية واحدة لاختلاف مقامهم كقضية الرجال الذين سمعوا قائلا يقول : يا سعتر بري، وذلك أن رجلا في الصفا بمكة صاح يا سعترا ابري لرجل آخر كان اسمه ذلك فسمعه الثلاثة، فكل واحد تعلق بذهنه ما يليق بحاله، فسمع أحدهم : الساعة ترى بري، وسمع الآخر : اسع ترى بري، وسمع الثالث : ما أوسع بري، فالأول كان مستشرفا، والثاني مبتدئا، والثالث كان واصلا.

وكذلك قضية ابن الجوزي كان يقرأ ببغداد اثني عشر علما، فخرج يوما لبعض شؤونه، فسمع قائلا يقول :

إذا العشرون من شعبان ولّت .... فواصل شرب ليلك بالنّهار
ولا تشرب بأقداح صغار ..... فقد ضاق الزمان على الصّغار

فخرج هائما على وجهه إلى مكة، فلم يزل يعبد اللّه بها حتى مات رحمه الله، ففهم من الشاعر انصراف العمر وضيق زمان الدنيا كله.

قال في لطائف المنن : واعلم أن هذه المفهومات المعنوية الخارجة عن الفهم الظاهر ليست بإحالة اللفظ عن مفهومه، بل هو فهم زائد على الفهم العام، يهبه الله لهذه الطائفة من أرباب القلوب، وهو من باطن الحكم المندرج في ظاهره اندراج النبات في الحبة وذلك أن المدد النوراني والفتح الرباني يتصل بعضه ببعض إلى الطرف الظاهر، فحيث انتهت القوة انتهى الإدراك ، فربما فهموا ما يوافق ظاهر المعنى الباطني، وربما خالفه من جهة ما، وربما كان الفهم بعكس ظاهره .

وقد كان الشيخ مكين الدين بن الأسمر رضي الله تعالى عنه ممن يشهد له الشيخ أبو الحسن رضي اللّه تعالى عنه بالولاية الكبرى، والمكاشفة العظمى، فأنشد إنسان في مجلسه :

لو كان لي مسعد بالرّاح يسعدني .... لما انتظرت لشرب الرّاح إفطارا
الرّاح شيء شريف أنت شاربه ..... فاشرب ولو حمّلتك الرّاح أوزارا
يا من يلوم على صهباء صافية ..... خذ الجنان ودعني أسكن النّارا

فقال بعض فقهاء الظاهر : لا يجوز قراءة هذه الأبيات، فقال الشيخ مكين الدين : قل ودعه، فإنه رجل محجوب، يعني أنه لا يفهم إلا الشراب الحسي دون المعنوي وهو جمود، والله تعالى أعلم .

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية