د - ملازمة الذكر
إذا كانت الصحبة في الذكر واردة وكان تلقين الذكر أمراً مشروعًا فإن ملازمة الذكر بالله عز وجل حالًا وهمّة تعتبر قطب الرحى في هذه الحتميّة، قال تعالى : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55].
فكان عليه السلام يذكر بلسانه ويُذكِّر الناس بقلبه ووجهه عليه السلام، يقول عبد الله بن رواحة مادحًا له :
لو لم تكن له آيات بينات ... لكان وجهه يغنيك عن (...)
وإذا ورث علماء الشريعة التذكير باللسان فإن من أمته من ورث التذكير بالله عز وجل بوجوههم وبقلوبهم، فإذا رآهم الخامل عن الذكر الذي لا يستطيع أن يذكر أنهضوا همّته نحو الله بالنظرة فيهم فيذكر الله عز وجل برؤيتهم، وهذه الزمرة هُم أولياء الله الذين اصطفاهم الحق وخصَّهم بهاته النعمة.
أخرج الحاكم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أولياء اللهِ الَّذينَ إذَا رُؤُوا ذُكِرَ الله»[1].وأخرج الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن عاصم والطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خِيارُ أُمَّتِي الَّذِينَ إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وشِرارُ أُمَّتِي المَشّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأحِبَّةِ، البَاغُونَ لِلبُرَآءَ العَنَتَ»[2] أخرجه أيضا البيهقي عن ابن عمر.
وأخرج الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألاَ أُنبِّئُكم بخِيارِكم؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله»[3]وأخرج الإمام الحاكم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خِيَارُكُمْ مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيَتُهُ ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ ، وَرَغَّبَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ»[4]وفي رواية ابن عباس أخرجها أبو يعلى : «وَذَكَّرَكُمْ في الْآخِرَةِ عَمَلُهُ»، ويمكننا أن نستنبط من هذه الأحاديث ما يلي :
أ - إن الخيرية والأفضلية مراتب، وإن أعلاها التذكير بالله عز وجل.
ب - إن التذكير بالله عز وجل يكون مباشرة برؤية خيار عباده هؤلاء.
ج - إن التذكير بالله والأفضلية هما سمتان أساسيتان لأولياء الله عز وجل.
د - رؤية هؤلاء هي كرامة لهم تدفع قلب المرء ولسانه للتحرك بذكر أسماء الله تعالى وتوحيده.
ولهذا تكون صحبة هذا النوع من خيار الناس ضرورية ليتحقق الذكر بالحال والعمل، ولقد كان سلف هذه الأمة أشد حرصًا على البحث عن هذا النوع الغالي والثمين من معادن الخلق، لأن بهم تفتح أقفال القلوب لذكر الله، وتدبر القرآن المنزل، وآيات الله في الوجود والآفاق، وبدونهم يبقى القلب أخرس أبكم، لأنه لم يحصل على من يفتح له الباب نحو المذكور سبحانه وتعالى، وجاءت الإشارة واضحة إلى دور المذكر بالله عز وجل في حديث الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إِنَّ مِنَ النَّاسِ لَمَفَاتِيحَ لِذِكْرِ اللَّهِ، إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ»[5] والمفتاح هنا معنوي يمتد إلى القلب من خلال حاسة النظر القلبية للمذكر، فيفك عنه أقفال الغفلة المانعة للذكر، وتبقى التجربة مع خيرة العباد هؤلاء أعظم شاهد على أكبر ثمرة يجنيها طالب وجه الله من صحبة الربانيين وهي الإكثار من الذكر وتذوق حلاوته والسير بواسطته نحو منازل القرب والأنس بالله تعالى، يقول ابن عاشر في منظومته :
يَصْحَبُ شَيْخَاً عَارِفَ المَسَالِكْ *** يَـقِـــيهِ في طَرِيقِهِ المَهَالِكْ.
يُـــــــــــــذَكِّـرُهُ اللهَ إِذَا رَآهُ *** وَيُوصِــلُ العَبْدَ إلى مَوْلاَهُ
وقد حكى الإمام ابن القيم هاته الشهادة الحيّة في صحبته لشيخه ابن تيمية إذ يقول واصفًا له : "وهو -مع ذلك- من أطيبِ الناسِ عَيْشًا، وأشرَحِهم صَدْرًا، وأقواهم قَلبًا، وأسَرِّهم نَفْسًا، تلوحُ نَضْرةُ النعيمِ على وَجْهِه، وكُنَّا إذا اشتَدَّ بنا الخَوفُ، وساءَتْ مِنَّا الظُّنونُ، وضاقَتْ بنا الأرضُ؛ أتَيْناه، فما هو إلَّا أنْ نراه ونَسمَعَ كَلامَه؛ فيَذهَبَ ذلك كُّله، ويَنقَلبَ انشراحًا وقوَّةً ويقينًا وطُمَأْنينةً. فسُبحانَ مَن أشهَدَ عِبادَه جَنَّتَه قَبلَ لِقائِه، وفتَحَ لهم أبوابَها في دارِ العَمَلِ، فأتاهم مِن رَوْحِها ونَسيمِها وطيبِها، ما استَفرَغَ قُواهُم لِطَلَبها، والمُسابَقةِ إليها".[6]
وفي موضوع تقديم بعض صيغ الذكر على بعض لأهميتها يشير إلى مفهوم الإذن هذا قائلًا : وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا : "سئل بعض أهل العلم أيما أنفع للعبد : التسبيح أو الاستغفار ؟ فقال : إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى : فكيف والثياب لا تزال دنسه ؟.[7]
** ** **
1 - كنز العمال ج 1 ص 119.
2 - نفس المرجع.
3 - نفس المصدر.
5.4 - نفس المصدر
6 - الوابل الصيب : ابن القيم ص 45
7 - نفس المصدر ص 87.