يقول الشّيخ أبو مدين التلمساني: "التّعظيم هو امتلاءُ القلب بإجلال الربّ". والتّعظيم هو وارد من حضرة العظمة، يردُ على القلب فيأخُذُ المُريد من حاله إلى حال يتعذّرُ وصفه، لأنّ العظمة إذا ظهرت على العبد تسلُبُه عن حاله وتُذهله عن نعته.
سُئل الشّيخ جابر رضي الله عنه عن مثل هذا الحال فقال: "العارفُ يُشاهد جلال العظمة وتتغيّرُ عليه الأحوال والمقامات فتداخله الحيرة والدّهشة ثُمّ تُخرجُه الحيرة للبهتة فتراهُ شاخصا بالحقّ إلى الحقّ، فتارة يشهدُ الجلال وتارة يُطالع الكمال، وتارة يرى البهاء، وتارة تلوحُ عليه العزّةُ والكبرياء، وتارة يبدو له الجبروت والعظمة، فهذا يُبسطه وهذا يقبضه، وهذا يطويه وهذا ينشُرُه، وهذا يفقده وهذا يوجده، وهذا يُبديه وهذا يُعيده، وهذا يُفنيه وهذا يُبقيه، وهذا زائل عن نُعوت البشريّة، قائم بصفة الرّبوبيّة، لا يُحسّ بالأغيار، ولا يُشاهد غير عظمة الجبّار".
ثمّ قال: "إذا قدحت نار التّعظيم مع نور الهيبة في زند السرّ تولّد منهما شُعاع المُشاهدة، فمن شهد الحقّ عزّ وجلّ في سرّه، سقط الكونُ من قلبه. فهذا من أخذته عظمة الرّبوبيّة فهل يجدُ لنفسه بقيّة؟ كلاّ، إنّما يجدُ الكُلّ مُتلاشيا وليس للغير أدنى فُسحة يظهر فيها أو يستقرّ عليها، فإذا تمكّن العارفُ من هذه المُكاشفة فقد تمكّن من معرفة الله، {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}[سورة يوسف:56].
وكُلّ ما برز على لسان العارف ممّا لا يُعقل، إلاّ وهو مأخوذ من امتلاء القلب بالتّعظيم، وكيف لا يبرز عليه وهو مُباين لعادته وقد تغيّرت عليه الأحوال، واتّسع لديه المجال، وزال الذّي زال، وبقي من لا زال، فلا محالة يقول كمن قال:
كُـنت نــرى الدّيــار.... تحوي بـعض الآثار
حـارت فيها الأفكار.... أيـــــن هــي أيــنـــا
حـتّـى بـدت جهــار.... فـيوضات الأســرار
نــقـضـت الـجــدار.... هـــو نـفـس المُـنــى
فاض البحر الزخّار.... عـلى الجـنّة والـنّـار
أيــن الفـلـك الـدوّار..... أيــــن هــــو أيــنـــا
غيّـب عنّي الأقطار..... والـبـيـــدا والـقـفــار
غابت عنّي الأخبار.... لــم نـدر مـاذا صـار
همتُ في ذا الزخار..... لا أيـــــنــا لا أنـــــا
سوى الفرد الصوار.... مُـــطــوّر الأطـوار
الأمــواج والأنـهـار.... والبـحـرُ يــحــويـنـا
وعندما تطرُق العظمة قلب العارف وتفعل به ما فعلت بغيره، يبرز بحقائق على لسانه فتقعُ في سمع الغافلين الحائرين في صفة التّكوين الذّين لم يرفعوا أبصارهم لله أحسن الخالقين، فيقولون: {مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ*إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ}[سورة المؤمنون: 24-25].
يقول العارف: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[سورة الأنعام: 79].
- كتاب "المواد الغيثيّة النّاشئة عن الحكم الغوثيّة"، للشّيخ أحمد العلاوي.