آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -66


ثم إن العبارة لا تدل على حال المعبر، فقد يكون فوق ما يقول، و قد يكون دون ما يقول، كما أشار إلى بيان ذلك بقوله:

188- رُبَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمَقَامِ مَنِ اسْتَشْرَفَ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ مُلْتَبِسٌ إِلاَّ عَلَى صَاحِبِ بَصِيرَةٍ .


قلت: العبارة لا تدل على نهاية المعبر، و لا وصوله إلى ما عبر عنه، فقد يعبر عن المقام من لم يصل إليه، و لكن استشرف عليه، و قد يعبر عنه من وصل إليه، و ربما عبر عن المقام و قدمه فوق ما عبر عنه، و ذلك ملتبس، إذ لا يعرف المستشرف من الواصل إلا ذو بصيرة نافذة، يعني من فتح عليه في المعرفة، فكل من فتح عليه في معرفة اللّه و رفع عنه الحجاب عرف كلام الواصل من المستشرف، فليس من خالط البلد و وصفها ثم نعتها كمن استشرف عليها، و لم يدخلها ثم جعل ينعتها. قال بعضهم: و قد يعرف المستشرف بطول التعبير، و الواصل باختصاره، فالمستشرف يطول العبارة و يكررها، و الواصل من أول مرة يدركها، و قد قالوا: العارف بالضرب لا يكثر الهنى، و العارف بالمفاصل لا يكثر الحنى. قلت: و هذه القاعدة ليست كلية، إذ كثير من العارفين الواصلين تطول عبارتهم لمعرفتهم بمفاصل الخطاب، و من المستشرفين من تقصر عبارتهم. قال المؤلف رضي اللّه تعالى عنه: الاستشراف و الوصل ليس إلا مراتب التوجه للتحقق بالعجز، فمن وصل لمعرفة العجز عن الوصول فهو الواصل، لكن العجز لا يكون إلا بعد الاتصاف به حقيقة لا مجازا، و ذلك أن الجاهل عجزه حالي قهري، و العارف عجزه جلالي رحماني: قلت: المراد بالعجز في حقه الحيرة و الدهش أولا، ثم العجز عن الإحاطة و الكنه ثانيا، ثم قال: يشهد لذلك أن الجاهل متى تحرك وقع في الحظوظ، و العارف لا يتحقق إلا بالحقوق، و الجاهل نصيبه الوهم، و العارف نصيبه الفهم، الجاهل طالب للعلم، و العارف طالب للمعلوم، الجاهل تابع بنظره للصور الحسية، و العارف غائص ببصيرته مع الأرواح المعنوية، و جميع المراتب و المقامات مراحل بين الحس و المعنى، و انتقال من الهياكل الجسمية للعوالم القلبية، ثم من العوالم القلبية إلى الحقائق الروحانية، ثم من الحقائق الروحانية إلى الأسرار الربانية، ثم من الأسرار الربانية إلى المعارف التوحيدية انتهى. ثم لا ينبغي للسالك أن يعبر عن هذه الأسرار إذا واجهته في طريق السلوك، كما أبان ذلك بقوله:


189- لا يَنْبَغي لِلسّالِكِ أنْ يُعَبِّرَ عَنْ وارِداتِهِ؛ فإنَّ ذلِكَ يُقِلَّ عَمَلَها في قَلبِهِ وَيَمْنَعْهُ وُجودَ الصِّدْقِ مَعَ رَبِّهِ.


قلت: المريد في حال سيره مأمور بالكتمان لعلمه و عمله و حال وارداته، فإفشاؤه لعمله من قلة إخلاصه، و إفشاؤه لأحواله من قلة صدقه مع ربه، و أيضا الأحوال تأتي من حضرة قهار فتتزعج القلوب خوفا، و تقلقها شوقا، فإذا أفشى ذلك كان تبريدا لها و إطفاء لنورها، كمن غلت قدرته فصب فيها الماء البارد فيطول عليه غليانها ثانيا، و لو قلل نارها و حركها لاستفاد إدامتها، كذلك الواردات الإلهية تفجأ القلوب لتحركها إلى النهوض إلى مولاها، فإذا أفشاها و ذكرها للناس قل علمها في قلبه، و دل على عدم صدقه فيها مع ربه. قلت: و من ذلك استعمال الأحوال التي تميت النفوس لا ينبغي إفشاؤها، فللنفس حظ في ذلك، لأنها مجبولة على حب المدح و الذكر الحسن، و لو من الإخوان، و كثيرا ما ترى بعض الفقراء يذكرونها و يتبجحون بها و هو غير صواب، نعم إن كان يقتدي به فيذكرها للاقتداء، و لإنهاض الفقراء، فذلك حسن مع نية حسنة، و كثيرا ما تستعمل هذه الأحوال في حال السؤال، فلذلك ذكره بأثر. أو تقول: لما كان التعبير عن الواردات الإلهية، مما يوجب الإقبال و التعظيم، فيؤدي ذلك إلى العطاء، فيحتاج إلى آداب القبض بين ذلك بقوله:


البداية  السابق   التالي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية