الفَصلُ الثالث
جمالية الخطاب الرّمزي في شعر
الوجدان عند محيي الدّين بن عربي
تعكس خطابات الشعر الصوفي في واقع الشعر العربي، تجربة وجودية كونية لازمت عالم الكينونة من جهات متعددة اختلفت باختلف المبدأ القصدوي الذي قام في رحابها الخطاب الشعري الصوفي؛ ذلك أن هذا الارتباط بين عالم الكينونة وواقع الشعر الصوفي هو في أصله الأول منبثق من تلكم الذات الإسلامية التي ظلت ولا تزال سائرة على سرها الوجودي/الكينوني الذي خلقت من أجله.
ولعل هذا النوع من التلازم بين عالم الوجود المطلق المتمثل في الفعل الكينوني وعالم الوجود الإنساني استطاع أن يجعل من الذات الإنسانية تعيش وجودها ضمن المطلق الذي هو في الأصل سهر من أسرار عالم المعرفة التي راح الشعر الصوفي يطل عن طريق ذلك على عالم الحق الذي يمكن أن يشار إليه وفق ما اتفق عليه في المدونة الصوفية بمبدأ الثنائية القائمة بين: (الله والإنسان)؛ هذ الثنائية بين الذات الإلهية والذات الإنسانية، حاول التصور الشعري الصوفي أن يجسد معالمها في تجارب شعرية تعبر عن حقيقة الذات الإلهية، وما يجب أن يكون الإنسان عليه اتجاهها، لترسم للبشرية حسب رؤيتها هذا الكون (الله-الإنسان) الطريق إلى الله وكيفية نيل رضاه.
واللافت للنظر أن المتمعن في استعمال مفهوم الثنائية من لدن الخطابات الصوفية ، يجدها لم تتعامل مع الثنائية كإجراء فقط، بل كحقيقة وجودية كونية حاولت أن تعطي لكثير من الحقائق المعرفية في عالم الوجود المطلق بعض الأسرار الربانية التي كانت في الغالب عبارة عن إشكالات أهلت الصوفي سلفا أن يقيم في رحاب ذلك تصورا معرفيا وفلسفيا وفكريا ولغويا ينطلق من الشعر ليصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه ب: الما وراء الشعر؛ الشيء الذي جعل من حركية الفكر الصوفي في تعامله مع واقع الشعر أن يتوسعوا"...في أشكال التعبير التي سمحت بها اللغة، وشكلوا نسقا خطابيا مختلف المكونات والظواهر النصية، من شعر وقصص وأدعية ومناجيات وحكم وأخبار، تُنظِّمها مجموعة من القوانين التي تحكم العلاقات والتفاعلات فيما بينها، قصد بلوغ هدف معين، هو التعبير عن تجربتهم في الاتصال بالله"؛ ذلك أن أغلى معتقد ظل الصوفي يؤمن به دون أن يحيد عنه هو ذلكم التجرد المطلق جملة وتفصيلا لعالم اللذة وفق ما آمنت به غالبية البشر تبعا لشرط التقييد في كل شيء، مقتربة اقترابا حقيقيا من اللذة القائمة على المطلق في ما له علقة بعالم الذات القدسية الجليلة، حقيقة وغاية ومقصدا؛ الأمر الذي جعل من ذاتية الصوفي نتيجة اقترابه من هذه الذات الإلهية عن طريق فعل اللذة الملزم للرضا الرباني، أن تكون الذات المطلقة-الله- هي التي لها الأسبقية من جهة الفعل الكينوني الوجودي والمعرفي؛ فراحت حينها تتصف بهذه الحقيقة التي تربو على أذهان كثير من التصورات البشرية، مكونة لنفسها وروحها هذا النوع من التلازم القائم بين المطلق-الحقيقة المطلقة- وعالم الروح؛ فالأصل في عالم الوجود الإنساني هو حب الله لا غيره، وهو الحب الذي يستوجب بل يستدعي تجردا مطلقا من كل جهة لازمت الوجود الإنساني؛ فجعلوا حينا المتصوفة تجربة التجرد من ملذات الدنيا التي تعشقها النفس مراتب، حتى إذا تجرد الإنسان من كلها ارتدى ثوب العشق الإلهي، وهي مرتبة يهب فيها الصوفي ذاته لربه كليا بعد تجرده من حب النفس والدنيا، ليكون بذلك المتصوف في هذا المقام أقرب إلى ربه ونيل رضاه، وينكشف له الحق فيصير بمنزلة الملازم له.
إنه السر الكوني الوجودي الذي لازم عالم الحقيقة من جهتين اثنتين: جهة قائمة في عالم الوجود المطلق بكل نواميسه الداخلية والخارجية، وجهة قائمة في الوجود الإنساني الذي هو في الأصل حقيقة معهبرة وكاشفة وموحية إلى تلكم الأسرار الربانية التي بثهها الله تعالى في عالم المطلق الجامع بي حقيقة الوجود والوجود الإنساني؛ الشيء الذي جعل من التصور الصوفي تجاه عالم الشعر أن يسير وفق هذه الثنائية اللامعرفية (أي التي لا تؤمن بّبدأ التقابل بل المضاهاة) يستشف عن طريقها تلكم المضاهاة بين الخلق والخالق فيما رسمته الكينونة من أسرار معرفية جعلت الشعر الصوفي أو بالأحرى الخطاب الصوفي ينتقل من عامل المحسوس في االأسبقية التخاطبية إلى عالم التجريد والإطلاق والشمولية والإستغراق القائمة في عامل المطلق.