190 - لاَ تَمُدَّنَّ يَدَكَ إِلَى الأَخْذِ مِنَ الْخَلاَئِقِ إِلاَّ أَنْ تَرَى أَنَّ الْمُعْطِىَ فِيهِمْ مَوْلاَكَ ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَخُذْ مَا وَافَقَكَ الْعِلْمُ .
قلت: مد اليد إلى الأخذ من الخلائق على قسمين: إما أن يكون من غير سؤال أو بعد السؤال، و لكل واحد منهما أحكام، أما الأخذ من غير سؤال فشرطه أمران: أحدهما: علمي، و الآخر:صوفي.
أما العلمي فلا يأخذ ممن كسبه حرام، و لا مخلط، و لا محجور عليه كالصبي و المجنون و العبد. و أما الصوفي، فلا يقبض حتى يعرف ممن يقبض علما و حالا، فإن اتسعت معرفته و تحقق فناؤه بحيث لم يبق له نظر للواسطة أصلا فربما يسلم له القبض مطلقا، لأنه يقبض من اللّه، و يدفع باللّه، و لكن الكمال هو الجمع بين الحقيقة و الشريعة، و قد كان كثير من الصوفية الحقيقيين يقبضون جوائز السلطان، ثم يدفعونها على أيديهم. و أما القبض بعد السؤال فالكلام عليه من وجهين: الأول: في جواز السؤال و منعه، و الثاني: فيما يقبضه بعد أخذه، أما حكم السؤال فأصله الجواز، قال اللّه تعالى: {وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 10]، فلو كان ممنوعا ما نهى اللّه عن نهره، ثم تعتريه الأقسام الخمسة: يكون واجبا، و مندوبا، و مباحا، و مكروها، و حراما. فأما الواجب : فهو ما يكون لسد الرمق، بحيث إذا ترك السؤال مات، فهذا واجب عليه، فلو تركه حتى مات مات عاصيا، فأوجبه الشارع خوفا على فوات حياة البشرية الحسية، و أوجبته الصوفية أيضا على من خاف فوات حياة الروحانية بحيث منعته الرياسة من حظ رأسه و ذبح نفسه، فقد نقل القسطلاني في «شرح البخاري»، عن ابن العربي المعافري أنه قال: هو واجب على المريد في البداية. فتحصل أنه واجب حيث يخاف فوات حياة البشرية، أو الروحانية، و إليه أشار ابن البناء بقوله:
وما على السائل من تأويل***لأجل قهر النفس و التذليل
فمن أولي الأذواق و الأحوال***من كان راض النفس بالسؤال
قالوا و لا خير إذا في العبد***ما لم يكن قد ذاق طعم الردّ
و بالجملة: فهو لرياضة النفس واجب أو مندوب. كان إبراهيم الخواص تعرض عليه الألوف فلا يقبلها، و ربما سأل من يعرف من الناس الدرهم و الدرهمين لا يزيد على ذلك. أما المندوب: هو أن يسأل لغيره فهو من التعاون على البر، فيسأل الطعام ليطعمه من يستحي، أو يسأل اللباس أو غير ذلك.
و قد سأل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لأصحابه حين قدموا عليه عراة، و يدخل في المندوب ما كان لرياضة النفوس حيث لم يخف عليه كما تقدم. و أما المكروه: هو أن يسأل لقوت البشرية مع القدرة على الاستغناء عنه بسبب من الأسباب، و هذا ما لم ينقطع للعبادة و يتجرد إلى الذكر، و أما المنقطع إلى اللّه فلا بأس به، و قد فعله كثير من العارفين المحققين.
فقد كان أبو جعفر الحداد و هو شيخ الجنيد يسأل بابا أو بابين أو ثلاثا بين العشاءين، فكانت العامة تتعجب منه أولا ثم عرف بذلك، فكان لا يعبييه عليه العامة و لا الخاصة مع جلالة قدره، وعلو معرفته بربه. وكان الشيخ أبو سعيد الخراز إذا اشتدت به الفاقة يمد يده و يقول: من عنده شيء للّه؟ و كان إبراهيم بن أدهم معتكفا بجامع البصرة، ولا يفطر إلا من ثلاثة أيام إلى ثلاثة أيام، يخرج بعد صلاة المغرب يطلب على الأبواب فطره. وكان سفيان الثوري رضي اللّه تعالى عنه يسأل الطعام للّه، فإن فتح بكثير أخذ كفايته و ترك الآخر، وأكثر الرجال على هذه الحال قطعوا الدنيا الفانية لإيثارهم الأخرى الباقية، و كل ذلك لا يقدح في شريعة ولا حقيقة، ولا يطفئ نور المعرفة، و قد أشار ابن البناء إلى هذين القسمين أعني المندوب و المكروه، فقال:
وكرهوا سؤاله لنفسه***ثم أباحوه لأجل جنسه
ولم يعدّوه من السؤال***لكن من العون على الأعمال
إذ كان خير الخلق في أترابه***يسأل أحيانا إلى أصحابه
وأما المباح: فهو أن يسأل الحاجة الغير ضرورية كسؤاله لقضاء دينه، أو ما يزيد على ستر عورته و سد رمقه، أو غير ذلك مما ليس بضرورة لكنه حاجيّ: أي محتاج إليه. وأما المحرم: فهو أن يسأل تكثرا أو زيادة على ما يكفيه، وفي الحديث: «من له أربعون درهما فالسؤال عليه حرام»، وفيه ورد الحديث: «إنّه يبعث يوم القيامة و ليس في وجهه مزعة لحم».
ومن المحرم أيضا ما فيه إلحاح وإضرار بالمسئول، قال تعالى: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} [البقرة: 273]. قلت: و أما ما يفعله بعض أصحابنا من صورة الإلحاح بنا فإنما قصدهم بذلك قتل نفوسهم بما يسمعون من المسئول في جانبهم، ولا يفعلونه إلا مع من يعرف عندهم بالإنكار، فيستخرجون منه الحلال اختبارا لأنفسهم، و قد يقصدون بذلك تحقيق الإخلاص و سترا للحال، فيظهرون الرغبة و هم من أزهد الناس تحقيقا للاكتفاء بعلم اللّه، و ما كان ذلك إلا في حال قوتهم و جذبهم فالسكر غالب عليهم، هذا ما حققته منهم، و قد انقطع ذلك كله اليوم، فما بقي إلا أهل الصفاء و أهل الوفاء. و سبب دخول السؤال في هذه الطائفة أن شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي اللّه تعالى عنه كان له جاه و وزارة و رياسة في فاس، فلما دخل في يد الشيخ و رأى صِدقه و جده قال له:" أرى لك خمرة لم يقدر عليها أحد قبلك، و لو لا ما رأيت فيك من الصدق و الجد ما دللتك عليها، قال: و ما هي يا سيدي؟ فقال: السوق للسؤال"، هكذا سمعته من بعض الإخوان. و الذي رأيته في كتابه أنه قال له: "يا ولدي أراك تطلب هذا العلم و لا تنال منه ما تريد إلا بالذل"، فدخل فيه و سكن إلى مماته، فلما ذاق سره و رأى ما فيه من الأسرار، و ما يقطع به المريد في سيره من المفاوز و القفار سَيَّر أصحابه عليه، و دلهم على استعماله، فكان أصل مشروعيته قتل النفوس، لا قبض الفلوس، فمن استعمله لقتل النفوس، و لج حضرة القدوس، إذ ما حجبنا عنها إلا حياة النفوس، و من استعمله لقبض الفلوس نال الشقاء و البؤس، و ينبغي أن يكون في حال السؤال يده مشيرة إلى الخلق و قلبه معلق بالحق، قال في «المباحث»:
و أدب الصوفيّ عند المسأله***أن يدخل السوق إليه يسأله
لسانه يشير نحو الخلق***و قلبه معلّق بالحقّ
و قد ذكر ابن ليون التجيبي السؤال، و بيّن أصله، و ذكر مسألة الزنبيل، و كيفيته أن يتوضأ الرجل و يصلي ركعتين و يأخذ الزنبيل، يعني وعاء بيده اليمنى، و يخرج إلى السوق و معه رجل آخر يذكر اللّه و يذكر الناس، و الناس يعطونه في ذلك الزنبيل حتى يجمع ما تيسر من الطعام و يصبه بين الفقراء، فيأكلون طعاما حلالا بلا تكلف و لا كلفة، هذا ما تيسر لنا في حكم السؤال. و الذي يظهر لنا في تركه اليوم أحسن من استعماله، إذ زالت هيبته و صار حرفة من الحرف، فصارت نفس كثير من الفقراء تبطش إليه، و ما ذلك إلا لما فيه من الحظ عندها، و اللّه تعالى أعلم.
و أما ما يأخذه من السؤال فإن كان فقيرا إليه أخذه، و إن كان غنيّا عنه تصدق به خفية بالليل مثلا. و كان شيخ شيخنا رضي اللّه تعالى عنه يقول: كان قصدنا من السؤال قوت الأرواح، فلما خرج منه قوت الأشباح تبارك اللّه، يعني فيأخذه من اضطر إليه، و باللّه التوفيق. و هذه الحكمة التي ذكرها الشيخ هي من أعظم المهمات التي يحتاج إليها أهل التجريد، و ليس مقصوده الكلام على السؤال، إنما مقصوده الدلالة على تربية اليقين، و عدم التشوف إلى المخلوقين، فلا يعلق قلبه بالمخلوق، فإن تشوف إليه فينبغي ألا يقبض ما يعطاه، و لا يمد يده إلى الأخذ منه، حتى يرى أن المعطي هو اللّه، و يكون ذلك ذوقا و حالا. قلت: و هذا الشرط إنما هو فيما يأخذ بغير سؤال، و أما في حال السؤال فلا يشترط بل يكون علما و مجاهدة حتى يصير حالا و ذوقا، و أما ما يأخذ بغير سؤال فلابد من هذه المعرفة. و قال شيخ شيخنا: لا تشترط هذه المعرفة بل يكفيه العلم فيها، و هو الأصح ما لم تتشوف نفسه إلى الخلق، فإن تشوفت نفسه فليكف عن القبض من الخلق، و ليكتف بضمان الملك الحق، قال تعالى: {وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} [هود: 6]. قيل لبعضهم: كيف خرجت من الدنيا بعد أن كانت في يدك؟ قال: نظرت منصفا لنفسي في معنى قوله تعالى: {وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} فرأيت جميع الخلق من البعوضة إلى الفيل تكفّل اللّه لهم بالرزق، ففوضت أمري إليه و اشتغلت بالعبادة. و قال عيسى عليه السلام: لا تهتموا بالرزق، فإن الذرة على صغرها تؤتى كل يوم برزقها الحديث، و قال أيضا عليه السلام: "عجبت لمن يعمل للدنيا و هو يرزق فيها بلا عمل، و لا يعمل للآخرة و هو لا يرزق فيها إلا بالعمل"، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم: «من كان همّه الآخرة جعل اللّه غناه في قلبه، و أتته الدنيا و هي راغمة، و من كان همه الدنيا جعل اللّه فقره بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له، و إنّ الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله»، و كان يحيى بن معاذ يقسم أنه لا تسكن الحكمة قلبا فيه ثلاث خصال: هم الرزق، و حسد الخلق، و حب الجاه. و كان حبيب العجمي يخدم الحسن البصري فصنع حبيب طعاما لإفطارهما و إذا بسائل فأعطاه جميعه، فقال الحسن: يا حبيب إنك كثير اليقين، قليل العلم، فهلا أعطيته النصف و نتقوت بالنصف؟ فقال: يا سيدي ثوابه لك، و أنا أستغفر اللّه، فلما جنّ الليل و إذا بقارع على الباب، فخرج حبيب فوجد عبدا معه طعام كثير و الشتاء ينزل، و الغلام يبكي، فقال له: ما هذا؟ قال: طعام، قال لي سيدي: إن قبله منك الحسن البصري، فأنت حر لوجه اللّه، و قد طال عليّ الرق، فقال حبيب: لا إله إلا اللّه عتق رقبة و إطعام جائع، ثم دخل به على الحسن، و قال: "يا سيدي إنك كثير العلم قليل اليقين، فقال: يا حبيب تقدمناك و سبقتنا" انتهى. قلت: و لشيخ شيخنا مثل هذه الحكاية، ذكرها إلى بعض أصحابه، ثم سألته عنها فقال: هي صحيحة، و ذلك أن أهله صنعوا طعاما جيدا، فلما وضعوه بين أيديهم و إذا بسائل يسأل، فأخرجه له الشيخ كله و بقي أولاده بغير عشاء، فلما كان بعد صلاة العشاء و إذا برجل يدق الباب، فخرج الشيخ فوجد رجلا معه مائدة فيها ألوان من الطعام، فأدخلها لعياله.
و قال بعض الأغنياء: كنت نائما و إذا بإنسان قد وقف علي في عالم النوم و زجرني و قال لي: أجب الملهوف، فانتبهت و أنا مذعور و لم أدر ما أصنع، فأوقع اللّه في قلبي أن أخذت صرة فيها مائة دينار و ركبت دابة و أطلقت زمامها، فخرجت بي من العمران إلى مسجد خرب، ووقفت فنزلت، و دخلت المسجد فوجدت مسكينا و هو يتضرع إلى اللّه و يسأله من فضله، فسألته عن حاله؟ فقال: أنا صاحب عيال و لي بنيات منذ ثلاث ما طعموا، فأنا أسأل اللّه من فضله، فدفعت له المائة و قلت له: إذا نفذت فاسأل عني فأنا فلان و ائتني، فقال: لا و اللّه ما أسأل غير اللّه، ثم انصرفت و أنا متعجب من ثقته باللّه تعالى، فهذه حكاية جند من جنود اللّه تعالى تقوي اليقين و توجب الثقة برب العالمين، فيستحي العبد من اللّه أن يرفع حاجته إليه، فأولى ألا يرفعها إلى غيره، كما بين ذلك بقوله:
191- رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أَنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إِلَى مَوْلاَهُ لاكْتِفَائِهِ بِمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ لاَ يَسْتَحِيَ أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَىَ خَلِيْقَتِهِ ؟.