وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي رحمه الله تعالى مع فضله وكثرة علمه واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر، فأمر بسلخه منكوسا فصار يقرأ القرآن بتدبر وخشوع حتى قطع قلوب الناس وكادوا أن يُفتنوا به. وكذلك سلخوا النّسيمن بحلب وعملوا الحيلة حيث كان يقطعهم بالحجج، وذلك أنهم كتبوا سورة الإخلاص وأوشوا من يخيّط النعال وقالوا هذه ورقة محبة فضعها لنا في أطباق النعال، ثم أخذوا ذلك النعل وأهدوه للشيخ من طريق بعيدة فلبسه وهو لا يشعر، ثم أطلعوا نائب حلب وقالوا له : بلغنا من طُرق صحيحة أنّ النّسيمي كتب "قل هو الله أحد" وجعلها في طباق نعله، وإن لم تصدّقنا فأرسل إليه وانظر ذلك، ففعل فاستخرجوا الورقة فسلّم الشيخ لله تعالى ولم يُجب عن نفسه وعلِم أنه لابدّ من قتله على تلك الصورة.
قال عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى : وأخبرني بعض تلامذته أنه صار ينشد موشّحات في التوحيد وهم يسلخونه حتى عمل خمسمائة بيت وكان ينظر إلى الذي يسلخه ويبتسم.
وأفتوا بتكفير الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وحرقوا كتابه الإحياء ثم نصره الله تعالى عليهم وكتبوه بماء الذهب. ورموا الشيخ أبا مدين المغربي بالزّندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان فمات بها. وكذلك أخرجوا الشيخ أبا الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى من بلاد المغرب بجماعته ثم كاتبوا نائب اسكندرية بأنه سيَقدُم عليكم مغربي زنديق، وقد أخرجناه من بلادنا فالحذر من الاجتماع عليه، فجاء الشيخ إسكندرية فوجد أهلها كلهم يسبونه، ثم وَشَوا به إلى السلطان ولم يزل به الأذى حتى حجّ بالناس في سنين كان الحجّ فيها قد قطع من كثرة قطّاع الطريق فاعتقده الناس.
ورَموا الشيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام رحمه الله تعالى بالكفر وعقدوا له مجلسًا في كلمة قالها في عقيدته وحذفوا السلطان عليه ثمّ حصل له اللطف. ورَموا الشيخ تاج الدّين السّبكي رحمه الله تعالى بالكفر وشهدوا عليه أنه يقول بإباحة الخمر واللِّواط وأنّه يلبس في الليل الغيار والزنار، وأتوا به مغلولا مُقيّدًا من الشام إلى مصر وخرج الشيخ جمال الدين الأسنوي فتلقّاه من الطريق وحكم بحقن دمه.
وأنكروا على الشيخ عبد الحق بن سبعين رحمه الله تعالى وأخرجوه من بلاد المغرب وأرسلوا مكتوبًا أمامه يحذّروا أهل مصر منه وكتبوا فيه أنه يقول : "أنا هو وهو أنا". وأمّا الشيخ محي الدين بن العربي والشيخ عمر بن الفارض رحمهما الله تعالى فلم يزل المُنكرون يُنكرون عليهما إلى وقتنا هذا.
وإنّما ذكرنا لك مِحن هؤلاء الأئمة الكرام تأنيسًا لك ليتحبّب إليك سلوك طريق القوم وتُقبل على مطالعة كتبهم، فتنتفع بها وتلحظك هِمّتهم، وتفوح عليك نفحاتهم، ويعود عليك مددهم، ومَن ذاق عَرف، ولا تلتفت إلى مُنكر عليهم فإنه مطرود، مُبعد ممقوت، ولو أنّه يفعل بعض العبادات فإنه لا يجد لها حلاوة ولذّة البتّة كما حكى الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهود المحمدية قال : أخبرني سيدي علي الخوصّ أن شخصًا من العلماء استأذنه في الحجّ سنة من السنين فقال له لا تسافر تُمقت، فقال كيف أمقت بالحج، ثم خالف وسافر إلى مكة فحضر وقت الخطبة فنهض قائمًا وقال : يا أهل مكّة جُمُعتكم باطلة فإنّ شرطها أن يسمعها أربعون من أهل الجمعة وما هنا إلا مسافرون، وكانت الناس متفرّقين في ظلِّ الكعبة من شِدّة الحرّ فوقع لذلك ضجّة عظيمة وأعادوا الخطبة، وكان من جملة من كان حاضرًا القطب والأوتاد والأبدال ومن شاء الله تعالى فرجع ممقوتًا. قال الشيخ : فأوّل ما رأيتُه حين دخل مصر وجدته ممقوتًا كالجلد الذي لا روح فيه، ثم قال لي : تقول لي إن حججتَ تُمقت ولولا حضوري هناك في هذه السنة بطلت جُمعة أهل مكّة في الموسم. قال الشيخ : فعرفتُ تمكّن المقت منه من القطب والأولياء الحاضرين هناك. وقال الشيخ عبد الوهاب : وقد رأيتُ أنا صاحب هذه الواقعة وقد نزع الله تعالى منه الاعتقاد من سائر العلماء والصالحين ولا تكاد تذكر له أحدًا إلا جرحه، وكان مع ذلك يقرأ كل يومٍ ختمة. وسمعتُ سيدي عليّاً الخواصّ مرارًا يقول : أنا أخاف على هذا الرجل من الموت على غير حالة مرضيّة. قال : ولو أن هذا المُنكر كان عنده أدب لَعَلِمَ أنَّ للهِ تعالى رجالاً يسمعون كلام من بينهم وبينه مسيرة ثلاثين ألف سنة وراثة إبراهيميّة.