الباب الحادي والأربعون في الطور
وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور.
اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الباب عمدة أبواب هذا الكتاب وليكن تأملك فيه مع حضورك فيما يقال لك، ولا تكتف بظاهر اللفظ، بل اطلب ما وراء ذلك مما نبهنا عليه من الإشارات و أومأنا إليه بلطيف العبارات.
واعلم أن جميع هذه المعاني المذكورة في الطور وغير مما سبق ذكره في الأبواب جميعها ولو كان المعتمد على ظواهرها في قول أهل الشرائع فأنت المراد بها في باطن الأمر، وآنيتك هي الحاوية لجميع تلك العبارات وتعدد تلك المعاني لتعدد وجوه آنيتك، فاعتبر جميعها في نفسك، فأنت المسمى بتلك الأسماء وأنت الموصوف بتلك الصفات.
واعلم بأن المراد بالطور نفسك قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} فعلم أن تم طورا غير الأيمن وهو الجبل الذي كان موسى يتجلى فيه كما يتجلى أهل الله في الكهوف والجبال والمغارات والأودية.
فالتجلي الحاصل هناك على موسى إنما كان من حيث نفسه لا من حيث الجبل، ولم يكن الجبل إلا محلا المكان تعبد موسی، واندكاك الجبل عبارة عن فناء نفسه بالله، وصعقه عبارة عن المحق والسحق.
فعدم موسى وصار العبد كما لم يكن وكان الحق كما لم يزل، فما رأى موسى ربه وإنما الله رأى الله، وما ثم إلا المعبر عنه موسی.
وإلى هذا المعنى أشار الحق سبحانه وتعالى بقوله: {لَنْ تَرَانِي} یا موسی، يعني إذا كنت موجودا فأنا مفقود عنك، وإن وجدت أنا فأنت مفقود، ولا يمكن للحادث أن يثبت عند ظهور القديم، وإلى هذا المعنى أشار الجنيد بقوله:"المحدث إذا قورن بالقديم لم يبق له أثر" وقال علي رضي الله عنه: "إن غبت بدا وإن بدا غيبني"، وإلى هذه الإشارة بقوله لموسي : "فارق نفسك وتعالى" حين قال موسى في مناجاته: يا رب كيف أصل إليك.
فإذا علمت أن الطور هو باطن نفسك وذلك هو المعبر عنه بالحقيقة الإلهية في الإنسان إذ خلقه مجاز ألا ترى إلى الحديث النبوي الذي قال فيه:" إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن".
وقد تقدم فيما بيناه أن الطور الأيمن هو النفس لأن الطور الذي هو غير الأيمن هو الجبل، فاكتفى عليه السلام في هذا الحديث بذكر اليمن، ونبه على أنه وجد نفس الرحمن من نفسه، ونفس الرحمن هو ظهوره في أسمائه وصفاته. قال تعالى: "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ". يعني إذا ظهر. فاعلم حينئذ أن الكتاب المسطور هو الوجود المطلق على تفاريعه، وأقسامه واعتباراته الحقية والخلقية وهو مسطور أي موجود مشهود في الملكوت، وهو اللوح المحفوظ ونظيره في الملك في المقابلة الإنسانية، وهي المعبر عنها بالرق المنشور. فمحل تشبيه قابلية روح الإنسان بالرق هو وجود الأشياء فيها بالانطباع الأصلي الفطري. وكان وجود الموجودات فيها بحيث لا تفقد شيئا، وهو المعبر عنه بالمنشور، لأن الكتاب إذا كان منشورا لا يبقى فيه شيء إلا وقد عرف، والرق المنشور هو اللوح المحفوظ، ونظيره روح الإنسان باعتبار قبولها وأنطباع الموجودات فيها. وذلك ذات الروح ولا مغايرة بينهما.
وأما البيت المعمور فهو المحل الذي اختصه فرفعه من الأرض إلى السماء وعمره بالملائكة ونظيره قلب الإنسان فهو محل الحق وهولا يخلو أبدا ممن يعمره إما روح إلهي قدسي أو ملكي أو شيطاني أو نفساني، وهو الروح الحيواني، فلا يزال معمورا بمن فيه من السكان. قال الله تعالى: "{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}[18 سورة التوبة] أي يقيم فيها، فالعمارة هي السكني.
والسقف المرفوع هي المكانة العليا الإلهية التي فيها القلب لأنه لما شبه القلب بالبيت جعل الحقيقة الإلهية منها سقفها المرفوع والسقف هو البيت، فسقف البيت المعمور هو الألوهية والبيت هو القلب. وكما أن السقف من البيت وبعضه، كذلك القلب الذي وسع الله ربه منه وبعضه، لأن الواسع هو الكل والموسوع هو الجزء، وهذا بلسان التوسع الذي عليه حقيقة الأمر. وأما الحق فحكمه ووصفه أن يسع الأشياء ولا يسعه شيء، ولا يجوز فيه البعض ولا الكل، بل هو منزه في قدسه عن جميع ذلك.
فاعلم ما هو له من حيث الوجود العيني وما هو له سبحانه وتعالى من حيث الوجود الحكمي، واعرف من هو واعرف من أنت، وما أنت هو وبما هوهو وبما هو أنت، وبما أنت مغاير له وبما هو منزه عن نقائصك.
واعلم أن النسبة التي بينك وبينه من أين صحت فوجدت، ومن أين انقطعت بينك وبينه ففقدت.
وتأمل إلى هذه العبارات التي تضمنته أسرار الحق في التصريح والإشارات.
فأما البحر المسجور فالعلم المصون والسر المكنون الذي هو بين الكاف والنون هذا تعبيره بلسان الإشارة، وأما الظاهر فيقال أنه بحر تحت العرش يلج فيه جبريل كل يوم فإذا خرج نفض جناحه قطر منه سبعون ألف قطرة، فيخلق الله تعالى بكل قطرة ملكا يحمل علما إلهيا، وهذه الملائكة هم الذين يدخلون البيت المعمور كل يوم من باب ويخرجون من باب ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة، فافهم ما أشرنا إليه في التصريح.
واعلم ما رمزنا لك في التلويح اعلم لم سخر لك هذا البحر ومنع هذا الفجر، هل هو لقصور العقول عن دركه أم الغيرة الإلهية منعت عن فكه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ عليه كتمه"حيث قال: "أوتيت ليلة أسري بي ثلاثة علوم، فعلم، وعلم، وعلم أخذ عليّ في كتمه" الحديث.
فجميع ما أبرزناه في هذا المسطور من زبد هذا البحر المسجور لا من درة اللائق بالبحور، بيد أنا لم نكتم منه شيئا، إذ وضعنا جميعه بين رمز في عبارة و لغز في إشارة، وبين تصريح أضربنا عنه إلى غيره، والمراد هو لما يحوي من غيره.
وهذا كتاب لم يأت بمثله الزمان، ولم يسمح بشكله الأوان، فافهمه وتأمله فالسعيد ابن السعيد من قرأه أو حصله.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.