آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -69



الباب الحادي و العشرون‌

192- إذا التبس عليك أمران فانظر أثقلهما على النفس فاتّبعه، فإنّه لا يثقل عليها إلا ما كان حقّا.

قلت: هذا ميزان صحيح في حق السائرين المشتغلين بالجهاد الأكبر، قال تعالى:{وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ‌} [الحج: 78]. و قال: {وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]، فكل ما يثقل على نفس المريد و تنفر منه فهو حق، فالواجب على المريد اتباعه، و كل ما يخف عليها فهو باطل و فيه حظها، فالواجب عليه اجتنابه و هذا الأمر يختلف اختلافا كثيرا، فرب نفس يثقل عليها غير ما يثقل على الأخرى، فبعضها يثقل عليها الصمت، و بعضها يثقل عليها الكلام، كما إذا تربى في الصمت، و بعضها يثقل عليها العزلة، و بعضها يثقل عليها الخلطة، و بعضها يثقل عليها الصيام، و بعضها الفطر، و بعضها يثقل عليها السؤال و تموت منه في ساعة واحدة، و بعضها يخف عليها كما إذا تعودته قبل الأمر به، و قس على ذلك. فليكن للعبد على نفسه بصيرة، و يصير معها على عكس مرادها، هكذا يستمر معها يخالفها فيما تأمره، و يتهمها فيما تستحسنه، فإذا تزكت و تطهرت من الحس و لم يبق فيها بقية، فحينئذ يجب عليه موافقتها إذ لا يتجلى فيها حينئذ إلا الحق، فقد جاء الحق و زهق الباطل، فيصير أمر العارف معكوسا مع السائر، فالسائر يضره التدبير و الاختيار، و العارف ينفعه، و السائر تضره الخلطة و العارف تنفعه، السائر يضره الكلام و العارف ينفعه، السائر تضره الدنيا و يهرب منها، و العارف غائب عنها لا تضره، و ربما تنفعه. و الحاصل: أن الواصل معكوس مع السائر في أموره كلها، و باللّه التوفيق. و يجب على من أراد جهاد نفسه أن يلقيها إلى شيخ التربية، إذ قد يلتبس عليه أمرها، و على فرض علمه بما يثقل عليها لا قدرة له على مجاهدتها إلا بهمة الشيخ، هذه سنة اللّه في عباده، فإن النفس لا تريد أن تخرج عن رأيها و مرادها أبدا، فالواجب إسلامها إلى من يعينه عليها، و انظر التكاليف الشرعية تجدها مخالفة لهوى النفس، و من لا يلقي قياده إلى الشرع فهو كافر، و ما كفر من كفر إلا بنتبع الأهواء، و اللّه تعالى أعلم.

و هاهنا ميزان آخر تعرف به العمل الذي فيه حظ النفس و هواها، و ما لا حظ لها فيه هو أن تعرض عليها الموت، و أنت في ذلك العمل، فإن رضيت بالموت و هي في ذلك العمل، فالعمل صحيح، و إن لم ترض بالموت و هي في ذلك العمل، فالعمل باطل، فكل عمل لا يهزمه الموت فهو صحيح، و كل عمل يهزمه الموت فهو باطل، يعني فيه الهوى و الحظ، و كذلك الإنسان يزن نفسه بهذا الميزان ليعرف هل رحل من هذا العالم أو هو باق؟ فيعرض الموت على نفسه في حال عافية و جمال، فإذا قبلت الموت، و لم تفر منه فليعلم أنه رحل من هذا العالم، و إن لم تقبل نفسه الموت و طلبت البقاء ففيه بقية بقدر ما تفر منه، و باللّه التوفيق.

ثم ذكر الشيخ ميزانا آخر يعرف به اتباع الهوى من الحق، فقال:

193- من علامة اتّباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات، و التّكاسل عن القيام بالواجبات.

قلت: هذا ميزان آخر، و إن شئت قلت: هو داخل في الميزان الأول، إذ من شأن النفس أن يثقل عليها الواجب لمشاركة الناس لها فيه، إذ جلّ الناس يفعلونه، فلا يظهر لها فيه مزية على غيرها، و هي أبدا تحب الخصوصية، بخلاف النوافل فإنها تبطش إليها و تحب أن تنفرد بها، إما لطلب المدح و الثناء، و إما لطلب الأجور من القصور و الحور، و هذا كله عند المحققين من الحظوظ الجلية أو الخفية، فالمسارعة إلى نوافل الخيرات، و فضائل الطاعات مع التكاسل عن الفروض الواجبات من علامة الهوى، فيجب على الإنسان أن يقدم الفرض الواجب، و لا يقدم عليه إلا ما هو من كماله: كالنوافل قبله و بعده إعانة على الحضور فيه، فإن حصل الحضور استغنى عن الوسيلة، و النافلة الكبرى عندنا: هي الاستغراق في مشاهدة مولاه بين فكرة و نظرة، أو ما يوصل إلى هذا المقام من مذاكرة أو ذكر، و من رفض الدنيا بحذافيرها و غاب عن نفسه و جنسه فقد جمع الفرائض و النوافل كلها و لو بات نائما و ظل مفطرا. و في بعض أخبار سيدنا داود عليه السلام قال: يا رب أين أجدك؟ فقال له: اترك نفسك و تعال: أي غب عنها تجدني أقرب إليك منها. و قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه تعالى عنه: عليك بورد واحد و هو إسقاط الهوى و محبة المولى، و باللّه التوفيق.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية