سألني أحد طلابنا المتميزين :
شيخي السلام عليكم و رحمة الله و بركاتهبما أنك مختص بالفلسفة العرفانية فعندي سؤال عن الحلاج يقول :
رأيت ربي بعين قلبي فقلت: من أنت ؟ فقال : أنت.
ما معنى البيت الأول من قول الحلاج :
رأيت ربي بعين قلبي قلت من أنت ؟ قال أنت .
فليس للأين منك أين وليس أين بحيث أنت
أقول وبالله التوفيق :
إن كلام الحلاج لا يحمل على ظاهره ، فلا يقال : يفهم من كلامه انه هو الله ، أبدا كلام اهل الله له منهجيه عميقه في فهمه تنسجم مع المنهج العرفاني والذي يسدده ويؤيده القرآن والسنة المطهرة .
كذا نفهم كلام المحدثين ضمن منهج ينسجم مع طريقتهم . وكذا أردنا أن نشرح كلام المتكلمين ضمن منهجهم واصطلاحاتهم ، وكلام الفلاسفة كذلك .
ولا يصح قول القائل : لم تفسرون كلام الحلاج بهذه الطريقة فإن كلامه واضح ، في أنه يزعم أنه هو الله والعياذ بالله ! وهو الكفر بعينه ، ولا ندري لم كيف تجعلون الكفر الصراح عين الإيمان والتوحيد .
والجواب بسيط : إن الكلام والتفسير يحمل على جميع العلوم ، ولا نحابي علما على آخر ، ولكن الأصل في العلوم أن تحاكم بناء على مصطلحاتها ومناهجها ، وإلا دخلنا في متاهة المصطلحات التي لا تنتهي ، وكل ما علينا فقط أن نقرأ منهج أهل العرفان ونفهمه جيدا ببعديه :
المعرفي النظري .
والمعرفي الذوقي .
وإذا حاول أحدنا أن يفسر كلام العارفين من خلال البعد الأول سيظل فهمه قاصرا بلا شك .
وإذا اخذ البعد الثاني دون الاول سينتفع وحده ولن ينتفع غيره لأنه لا يمكنه التعبير أو قل : التقريب للمنهج العرفاني .
فشرحنا لكلام الإمام الحلاج أو ابن عربي أو الشعراني أو القشيري أو الجنيد ، لا يخرج عن محاولة جاده لكشف عن مرادهم على حسب طريقتهم ، فطريقتنا بالشرح لا يراد منها الدفاع وإلا الإقناع ، بقدر الكشف عن معانيها .
قوله : " رأيت ربي بعين قلبي" هذه الرؤية القلبية والمقصود منها المعرفة الذوقية ، وليس الرؤية البصرية .
فالقلوب لها عيون ذوق وشهود.
وكما قال الحلاج : قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا .
قوله : قلت من أنت " أي في حالة الشهود المعرفي الذي إليه العارف والذي يتحصل عليه بالذكر والاستقامة ، يتحقق العارف بالفناء الذي هو أصله ، في هذه الحالة لا يبقى للعارف حضور او شهود اذ قد تحقق في مرتبته العدمية !
فيسأل وهذا حاله فالباقي والموجود واحد أحد . قوله :" قال أنت " والمتبادر أن يقول له في الجواب إنني أنا الله ! ولكن قال له أنت ، أعاده إلى نفسه الفانيه أي وصلت إلى هنا بتحققك بالفناء ، فاحذر لانه ليس ثمة آخر .
لأنه لو أجابه فقال أنا ! لصار هناك موجودان أنا وأنت،وأنا وأنت حاصلة قبل تحققك بالفناء ، ولكن الفناء غياب الاثنينية .
ثم كان التعقيب بالبيت الثاني لينفي كل ما يتبادر إلى ذهن الأجانب من كلام العارفين.
قوله : " فليس للأين منك أين " نفي صريح للمكان والجهة الحسية عن الله تعالى التي يثبتها المجسمة والعياذ بالله .
فالجهة والمكان منفيان عن الله تعالى كما نص القرآن الكريم ذلك عندما قال الله تعالى :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فلا مكان ولا جهة . وقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) .
كما نفى سيدنا رسول الله المكان والجهة هو الله تعالى عندما قال :( كان الله ولم يكن شيء معه ) .
وهذا ما صرح به الإمام الطحاوي بقوله : " "وتعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ) .
قوله :" وليس أين بحيث أنت "يعني أنت سبحانك وتعالى موجود ولا أين لك ، فالأذن حصر والمكان والجهة قيد وكلها منفية عنه تعالى .
فلا حلول ولا اتحاد ! كيف وانت الواحد الاحد الموجود الفرد الصمد .
وأما المخلوق فظاهر بإيجاد الله تعالى له ، وممدود بقدرة الله تعالى في كل حركة ونفس ، وكما قال السكندري في حكمه :
نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وأصحابه المتقين .
كتبه :
الفقير إلى الله تعالى
د . ربيع العايدي / محاضر في جامعة الزرقاء