بناء على هذا التصور الذي آمن به الصوفي في تعالقه مع مستلزمات المطلق في ظل واقع الثنائية السائرة على لسان حال المضاهاة التي بضدها تتبين الأشياء وتعلم، راح غالبية شعراء الصوفية وعلى غرارهم محيي الدين بن عربي، تجاربهم الروحية في رحلتهم نحو الذات الإلهية، وسرعان ما كونوا لأنفسهم عالما روحيا غير الذي كانوا يعيشونه، بعد أن تعلقوا بهذه الذات فتولدت في تصورهم نتيجة هذا التعالق بين الذات الصوفية وعالم الإطلاق ، مدونة مفاهيمية مصطلحية صوفية غر معهودة لدى كثير من الخلق، سواء من جهة التصور أو المنهج أو الموضوع، بله المقصد ؛ فراحوا يوظفون في كثير من أشعارهم إطلاقات ليست كباقي الإطلاقات المتفق عليها لدى كثير من الخلق؛ فكانت لهم خمر أخرى وعشق آخر وطبيعة أخرى غير التي عهدوها، وانتقلت موضوعاتهم الشعرية من الخطابات المادية التي تتضمن الخمرة والمرأة والطبيعة كملذات من ملذات الدنيا، إلى خطابات روحية تنوعت بين العشق الإلهي، وكشف الأسرار الإلهية، ورؤية الحق، والموعظة، والحكم، والعبر .
ولقد اعتمد المتصوفة لغة الرموز آلية لبناء خطاباهتم الشعرية، ما شكّل عائقا أمام كشف جمالية الخطاب الشعري للمتصوفة، وصعب تفكيكها إلاّ من خلال تتبع قائليها أو استقراء الرموز الشعرية التي يستعملونها، مثل الخمرة والطبيعة والمرأة؛ حيث تظهر جمالية الخطاب الرمزي في الشعر في نقل المتصوفة هذه المعاني من عالمها المادي إلى عالمهم الروحي؛ حيث تترك العلاقة بين معانيها المادية ومعانيها الروحية، انطباعا يجر الفكر إلى إعمال النظر في ما ترمز إليه ، لتتجلى جمالية هذه الرموز في ما تتركه من انطباع حول ربط الصورة المادية بالصورة الروحية، باعتبار أن الجمالية كما يقول كانط (Kant) "حالة من الوجد، تُمتِّع دون غاية ودون مفهومات" إلا أن ذلك لا يمنعنا من القول بأن طبيعة الإحساس بالجمال تبقى انطباعية أكثر منها موضوعية؛ لكونها تختلف من شخص لآخر حسب ذوقه الجمالي، لكن ذلك لا يمنع من سيطرة جمالها على مجموع بأكمله، إذاكانت جمالية الشيء قد فرضت الانطباع نفسه على الجميع.
ونجد أن ابن عربي على شاكلة معظم شعراء الصوفية، تعلّقت معظم خطاباته بعشق الذات الإلهية ، فاتخذ من الشعر وسيلة إفصاح عن ما في وجدانه، اتجاه هذه الذات وعالمها الغيبي، وذلك بوصف الشعر أقدر مسلك على امتصاص فيضان التجارب الروحية والعواطف المختلفة ، وأخصب فضاء لضمان حيوية التجربة الصوفية وخلودها في النفوس... ومن هذا المنطلق جعله ابن عربي من أهم السبل للإفصاح عما كان ينوء به إحساسه الصوفي من تراكمات ومشاهدات وانفعالات، واتخذ وسيلة للخلاص من الزمن الواقعي والاجتماعي، وجسرا ينفلت عبره من رقابة السلطة القهرية المعادية لقول الرغبة.
ولعل عنوان ديوان ابن عربي (ترمجان الأشواق) أدلّ دليل على تعلقه بالذات إالإلهية التي راح يستلهم في وصف وجده بها صورا من العالم المادي، تجسِّد رحلته مع عشقه هذه الذات، ورؤية الحق بالمشاهدة في عالمه الروحي؛ حيث استطاع أن يخلف في هذا النوع من الحقيقة للعشق الإلهي الملازم لعامل الروح "... ديوانين أحدمها (الديوان الأكبر) وثانيهما (ترجمان الأشواق) وعلى حين تنوعت موضوع النظم في الديوان الأكبر ، تعيّن الموضوع في الديوان الثاني (ترجمان الأشواق) إذ قصر الناظم على التعبير عن حبه الإلهي ، وتصوير أحواله وأهواله وأشواقه، وأذواقه في طريق هذا الحب الإلهي، وما انتهى إليه من فتوحات إلهية، وإلهامات روحية، كل أولئك في أسلوب رمزي قوامه الألفاظ الغزلية والخمرية التي اصطنعها الغزليون والخمريون من شعراء العرب، وهو إنما يفعل ما فعله ابن الفارض من إيثار الإشارة على العبارة، والتلويح على التصريح.
إن مثل هذا التصور الذي يمكن أن نصفه بالماوراء الإحساس الملازم لعالم الحقيقة المطلقة، أدى فيما بعد أن وجّه لابن عربي عدة انتقادات وصلت إلى درجة الكفر والخروج عن الملة، وهي طبيعة-في اعتقادنا- لا يستطيع الوجود الإنساني أن ينسلخ عنها؛ إذكيف يفسر فعل الاختلاف القائم على الحقيقة المطلقة بغير هذا التفسير؛ فلقد سار في عالم المعرفة من باهبا اللامحدود عدة نفوس بشرية على اختلاف اتصالها بعالم الحقيقة المطلقة، وفق هذا المبدأ و اتهمت بل قتّلت شر قتلة وعذبت تعذيبا شديدا؛ لأنها استطاعت على حد تعبير الفخر الدين الرازي أن تحقق لذاهتا تمايزات ذاتية من نوع خاص ؛ فعاشت وجودها الكوني وفق ما يتماشى مع طبيعة الحقيقة المطلقة التي جعلتها وفق تلكم العلاقة بينها وبين الذات المقدسة عن طريق فعل العشق الملازم الحب الإلهي.
إضافة إلى حملات التكفير التي تهاطلت عليه نتيجة خطاباته الرمزية، نجد حملات النقاد الأدباء ترمي إبداعاته الشعرية بعدم الترابط" ولعل أبا العلا عفيفي كان أول النقاد الناطقين بالإنجليزية، ممن أدركوا بوضوح أنه لا توجد صيغة ملموسة من الترابط، أو النظام في كتابات الشيخ الأكبر؛ بل مجرد أسلوب مبعثر استطرادي، يفتقر إلى الشكل والتماسك افتقارا واضحا" وليس لنا الرد إلا بالقول أن نفي الترابط المنطقي حاصل لدى القارئ، نتيجة تعامله مع المعطيات الشعرية التي خلفها ابن عربي بنوع من التجزئة، دون تعاملهم مع نصوصه على أنها كل متكامل، وهذا ما حصل للكثريين ممن قرأوا قصائد محيي الدين ابن عربي، في تعاملهم معها بالتجزئة.
وبالرغم من الإشكالات التي طرحتها خطابات ابن عربي الشعرية منها والنثرية، في الفكر الإسلامي، إلا أننا لا نتناول خطاباته الشعرية الوجدانية بالدراسة، إلا كتجربة شعرية إنسانية، نسج من خلالها ابن عربي تجتربته مع خالقه، وبالتحديد تجربته مع عشق الذات الإلهية؛ لنستشف جمالية الرمز في هذه الخطابات الشعرية التي اعتمد فيها على الترميز في نقل عالمه الروحي المحسوس إلى العالم الملموس؛ وذلك لما لعالمه من خفاء يستحيل على غيره إدراكه إلا بعد سلوك الطريق التي مر منها، ففي رسالته إلى الفخر الرازي يقول ابن عربي: " لا تأخذ علما إلا من الله تعالى على الكشف، وأنه من المحال للعقل والفكر أن يصل إلى ما يطمئن إليه الإنسان في معرفة الله تعالى، وعليك أن تلزم طريق الرياضات والمجاهدات والخلوات" وبهذا فإن العلم الذي أخذه الشاعر عن عالمه الروحي، لا يُأخذ بالتعلم أو التلقين على شيوخ العلم، على نحو علوم المعرفة الإنسانية أو الطبيعية، وإنما هذا العلم بعيد كل البعد عمن لم يسلك الطريق ذاتها التي سلكها ابن عربي وغيره من المتصوفة،"ولـأن ابن عربي صوفي أصالة يأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال في التعبير، باعتبار أن ما يعالج من المسائل يستعصي على العقل غير المؤيد بالذوق أن يدركها، ويستعصي على غير اللغة الرمزية أن تفصح عن أسرارها، فقد تفاوت الناس في فهم مقاصده: هل المراد من أقاويله ظواهرها البادية أو أن الأمر يحتاج إلى فهم أشمل وأدق ولا يكون إلا بالتأويل والتفسير... ولهذا ترى المؤرخين له يقفون منه أحيانا موقف الحيرة".