آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -71


197- مَنِ اسْتَغْرَبَ أَنْ يُنْقِذَهُ اللهُ مِنْ شَهْوَتِهِ ، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ وُجُودِ غَفْلَتِهِ فَقَدْ اسْتَعْجَزَ القُدْرَةَ الإِلَهِيَّةَ ( وَكان اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ).


قلت: لا شك أن الحق تعالى لا يعجزه شي‌ء، هو الغالب على أمره، و قلوب عباده بيده يصرفها كيف شاء و يقلبها حيث شاء، فمن كان منهمكا في الغفلة، مستغرقا في بحار الشهوة، فلا يستغرب أن ينقذه اللّه من غفلته، و أن يخرجه من وجود شهوته، فإن ذلك قدح في إيمانه، و كيف يستغرب ذلك و ربنا تعالى يقول: {وَ كانَ اللَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مُقْتَدِراً}.[الكهف: 45]، و أنت من ذلك الشي‌ء، و قال تعالى في حق العصاة:{ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‌} و قال تعالى: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ، وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ‌} [الزمر: 53]، إلى غير ذلك من الآيات. و قال عليه السلام: «لو أذنبتم حتى تبلغ خطاياكم عنان السماء ثم تبتم لتاب اللّه عليكم‌»، و ليتذكر من تقدم قبله من أهل الغفلة و العصيان، ثم صار من أهل المشاهدة و العيان، كانوا لصوصا فصاروا خصوصا، كإبراهيم ابن أدهم، و الفضيل بن عياض، و أبي يعزى، و كثير ممن يتعذر حصره، و قد ذكر القشيري في أول رسالته منهم رجالا، قدمهم أولا تقوية لرجاء المذنبين. و ليذكر الرجل الذي قتل تسعا و تسعين نفسا، ثم سأل راهبا عن التوبة فقال له: لا توبة لك فكمّل به المائة، ثم سأل عالما فدله على التوبة، و أمره بالذهاب إلى قرية فيها قوم يعبدون اللّه فقصدهم، فمات بالطريق، فأخذته ملائكة الرحمة، و الحديث في البخاري مطولا. و كذلك الرجل الذي كان لصّا فسأل عابدا هل له من توبة؟ فاستهزأ به و أخذ عرجونا يابسا، و قال له: خذ هذا العرجون فإذا اخضر فقد صحت توبتك، فأخذه بالنية و جعل يعبد اللّه و ينظر إليه فأصبح ذات يوم معسلجا أخضر.

قلت: و قد أدركت أقواما كانوا مغروقين في الغفلة و ترك الصلاة، لا يعرفون من الدين المشهور قليلا و لا كثيرا، فضلا عن طريق الخصوص، فانقلبوا و صاروا خصوصا عارفين. و قد أدركت أقواما كانوا منهمكين في الذنوب مغروقين في المعاصي و ظلم العباد، فصاروا من أعظم الصالحين. و قد رأيت نصارى يثغر سبتة، حضروا خلف حلقة الذكر، فانجذبوا و تبعونا حتى أخرجنا الحد الذي بيننا و بينهم، و لو وجدوا سبيلا لأسلموا سريعا. و قد كان بعض إخواننا يقول في شأن نفسه تعجبا من خروجه من غفلته: هذا مدفع النخّاس المدبر، من عنده شي‌ء فليخرجه؟ فلقد رأينه مجذوبا عاريا رأسه، حافيا رجله، فهو اليوم من خواص الأولياء. و الغالب إنما يتفق هذا لمن سقط على صحبة العارفين الذين عندهم الإكسير، و هم موجودون في كل‌ أوان، و هذا أمر شهير لا يحتاج إلى دليل، و من شك فليشاهد، فيا عجبا ممن ينكر ضوء الشمسبعد طلوعها، و نور القمر بعد ظهوره، و لكن كما قال صاحب البردة:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ....و ينكر الفمّ طعم الماء من سقم‌

{وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]، و أعجب منه من ينكر وجود شيخ التربية، و يقر بانقطاع أهل الخصوصية، {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، أعني تعمى عن طريق أهل الخصوص، و تبصر طريق أهل العموم، كحال الخفاش يبصر في الظلمة و لا يبصر في النور، فهو عند الناس معذور لفقده ما عند الأقوياء من النور، و قد يسلط اللّه على عبده الانهماك في الشهوات و يحبسه في سجن الغفلات، ثم يمن عليه بالتوبة و التيقظ من الغفلة، و يدخله مع أحبائه مداخل الحضرة ليعرف قدر ما أظهر اللّه عليه من المنة، كما أبان ذلك بقوله:

198- رُبَّما وَرَدَتِ الظُّلَمُ عَلَيْكَ، لِيُعَرِّفَكَ قَدْرَ ما مَنَّ بِهِ عَلَيْكَ.

قلت: لا شك أن نيل الشي‌ء بعد الطلب ألذّ و أعزّ من المساق بغير تعب، و المحبة بعد القطيعة أحلى من المحبة بلا قطيعة، و الصفاء بعد الجفاء أصفى من الصفاء بلا جفاء، و فطام النفس عن مألوفاتها و عوائدها أشد معالجة من النفس السلسة المنقادة من غير تعب، فيكون الأجر أو القدر على قدر التعب، فهذه حكمة تقديم ورود الغفلة و الشهوة على العبد، ثم ينقذه منها ليعلم قدر هذه النعمة التي أنعم اللّه بها عليه، فربما أورد عليك أيها الإنسان الحق تعالى الظلم جمع ظلمة و هي الأغيار و الأكدار، و حب الشهوات و العوائد، فتغرق في بحارها و تسجن في سجون ظلماتها، ثم ينقذك منها في ساعة واحدة، و ذلك لتعرف بعد الفتح قدر ما منّ اللّه به عليك، فتزداد محبة و شكرا، و يعظم السر عندك محلا و قدرا، فتعرف حقه و تصونه عمن لا يستحقه، و لأجل هذا جعل اللّه الجنة محفوفة بالمكاره، ليعرف العبد بعد دخولها قدر النعمة التي منّ اللّه بها عليه، و كذلك جنة العارف محفوفة بالمكاره، ليعرف العارف قدر السر الذي كشف به، و الخير الذي منحه اللّه إياه. و اعلم أن هذه الظلم التي ترد على القلوب فتحجبه عن علّام الغيوب هي‌ ناشئة بحكمة اللّه من الدنيا و النفس و الشيطان فمن زهد في الدنيا و غاب عن نفسه، و أطلق يده منها و ذكر اللّه حتى احترق الشيطان، و ذاب دخل مع الأحباب، و فتح له عن علم الغيوب الباب. قال بعض الحكماء: و اعلم أن الصانع البديع سبحانه لما خلق القلب جعله خزانة أسراره، و معدن أنواره و موضع نظره من عبده، و لم يخلق اللّه في الوجود أشرف منه، ثم رمى على باب القلب أخس الأشياء و أقذرها، لتقتضي حكمته اجتماع الأضداد التي لا قدرة لغيره على ذلك، فطرح على باب القلب جيفة و كلبا ينهش فيها و هما الدنيا و الشيطان، فمن أراد الدخول لخزانة سر اللّه لا بد له من تغميض عينه عن هذه القذرة و إعراضه عن الكلب، لأنه لا سبيل له على من أعرض عنه و عن جيفته، و كل من التفت إليها سلب النور الذي أراد اللّه به الدخول لبيت قلبه، و كان له ذلك كالطلسم على الكنز منعه منه لا محالة انتهى. و قيل: إن الدنيا بنت الشيطان، و طالب الدنيا صهر إبليس، و الأب لا ينفك عن بنته أبدا ما دامت البنت في عصمة الصهر. و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا أراد اللّه بعبده خيرا زهّده في الدنيا، و رغّبه في الأخرى و بصّره بعيوب نفسه، قيل: يا رسول اللّه أيّ الناس شرّ؟ قال: الأغنياء» يعني البخلاء، ثم قال صلى اللّه عليه و آله و سلم: «و من عظّم غنيّا لأجل غناه كان عند اللّه كعابد وثن، و من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة سنة» انتهى. و أوحى اللّه إلى موسى عليه السلام: ما أحبني من أحب المال، و ما أحبني من أحب الدنيا، فإنه لا يسع في قلب واحد حبى و حبها أبدا، يا موسى ما خافني من خاف الخلق، و ما توكل علي من خاف فوات الرزق، و عزتي و جلالي ما توكل علي عبد إلا كفيته و بيدي مفاتيح الملك و الملكوت، و ما اعتصم بي عبد إلا أدخلته الجنة، و كفيته كل مهمة، و من اعتصم بغيري قطعت عنه الأسباب من فوقه‌ و أسخت الأرض من تحته، و لا أبالي كيف أهلكته، يا موسى خمس كلمات ختمت لك بها التوارة، إن عملت بهن نفعك العلم كله، و إلا لم ينفعك شي‌ء منه: الأولى: كن واثقا برزقي المضمون لك ما دامت خزائني مملوءة، لا تنفد أبدا. الثانية: لا تخافنّ ذا سلطان ما دام سلطاني، و سلطاني دائم لا يزول أبدا. الثالثة: لا ترى عيب غيرك ما دام فيك عيب، و العبد لا يخلو من عيب أبدا. الرابعة: لا تدع محاربة الشيطان ما دام روحك في جسدك، فإنه لا يدع محاربتك أبدا. الخامسة: لا تأمن مكري حتى ترى نفسك في الجنة، و في الجنة أصاب آدم ما أصاب، فلا تأمن مكري أبدا انتهى. قلت: و هذا كله تشريع لغيره، و الأنبياء كلهم مطهرون معصومون، و كل ما ورد فيهم من التعليم و التربية فالمراد به غيرهم، و باللّه التوفيق. ثم من منّ اللّه عليه فأخرجه من أسر نفسه، و أطلقه من سجن غفلته، فلم يعرف هذه النعمة سلبها من ساعته، كما أشار إلى ذلك بقوله:

199- مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ النِّعَمِ بِوجْدانِها عَرَفَها بِوُجودِ فُقْدانِها.


قلت: هذا الذي ذكره الشيخ مجرب صحيح، و ذلك أن العبد قد تترادف عليه النعم و العوافي فلا يعرف قدرها، و لا تعظم عنده كل التعظيم، فإذا سلبها و ضرب بالبلاء و الأوجاع و المصائب فحينئذ يعرف قدر العافية، و كذلك الفقير يكون مصحوبا بالحضور و الفكرة و النظرة فلا يعظم عنده قدرها، فإذا أصابته الغفلة و رجع إلى الحس و فقد قلبه عرف قدر ما كان عنده، فإذا التجأ و اضطر إلى اللّه رد إليه ما سلبه. قيل: إن اللّه تعالى يقول لجبريل: يا جبريل انسخ حلاوة محبتي من قلب عبدي، أختبره، فينسخ جبريل حلاوة المحبة من قلب ذلك العبد، فإذا هو اضطرب و تضرع و التجأ و بكى، يقول اللّه تعالى لجبريل رد عيه حلاوة محبتي، فقد وجدته صادقا، و إذا نسخ حلاوة المحبة من قلب العبد فلم يبتهل و لم يتضرع، لم يرد إليه شيئا و سلبه تلك الحلاوة، و العياذ باللّه من السلب بعد العطاء. و يستعين العبد على معرفة قدر النعم، بالتفكر فيها، و بالتفكر في حال نفسه قبل وجودها، فينظر إذا كان غنيّا إلى حال فقره المتقدم حسّا أو معنى، و ينظر إذا كان صحيحا إلى حال مرضه، و ينظر إذا كان طائعا في حال عصيانه، و ينظر إذا كان ذاكرا إلى وقت غفلته، و ينظر إذا كان عالما إلى وقت جهله، و بنظر إذا كان مصاحبا لشيخ عارف إلى وقت ضلالته، و ينظر إذا كان عارفا إلى وقت جهالته، و هكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها الذي كان موجودا فيه قبل ذلك، فلا شك أنه يعرف قدرها فيشكرها فتدوم عليه، و أما من لم يتفكر في حال النعم فلا يعرف قدرها، فيغفل عن شكرها، فيسلب منها و هو لا يشعر. قال بعضهم: شكر اللّه تعالى باللسان: هو الاعتراف بالنعمة على وجه الخضوع، و شكر اللّه باليد: هو الاتصاف بالخدمة على وجه الإخلاص، و شكر اللّه بالقلب: هو مشاهدة المنة و حفظ الحرمة. و قال الجنيد رضي اللّه تعالى عنه: ألا ترى نفسك أهلا للنعمة، و ألا تعصي اللّه بنعمته، انتهى. فإن قلت: كيف بشكر النعم و هي لا تحصى؟ قلت: القيام بها هو الاعتراف بها للمنعم وحده، و إلى هذا المعنى أشار الشيخ بقوله:

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية