كتاب: فتح الحق في الجمع والفرق
المؤلف: أحمد بن یوسف الحریثي، الشافعي، أبو العباس، شھاب الدّین (المتوفى: 862).بسم الله الرحمن الرحیم وصلى الله على سیدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
یقول عَبْدٌ عَجز عن درك القول إلا بعنایة من ذي الطول، مستمدا - من مدده الأزلي - دوام فیضه الأبدي :
حَمِدَت الأحدیة ذات نفسھا فى مكنون غیبھا المطلق، فظھرت الواحدیة تشیر بنعتھا الموجود المحقق، فوجبت الألوھیة، وتكثرت بأنواع الأسماء والصفات. وكان من آثارھا إبراز سائر أجزاء كلیات الكائنات على وفق ما نفد فى المكنون الغیبي؛ فجرت ألسنة العوالم باختلاف إدراكاتھا وتغایر تنوعاتھا. وأجابت موافقة للحمد القدیم الذاتي فقال : الحمد لله رب العالمين ثم لھجت بأنواع التسبیح، والتقدیس، والتمجید لباریھا ومخترعھا ومبترزھا من ركن العدم إلى الوجود المقید لیقرنھا به فبتعرّفه لھا عرفت، وبه قامت، وبه لھجت، وسبّحت، وحمدت، وقدّست.
فنقول بلسان العجز والتقصیر الجاري بإرادة القوى القدیر: (اللھم صل وسلم وبارك بلسان صفاتك فى حضرة ذاتك، على أشرف مخلوقاتك سیدنا محمد، صلاتك القدیمة الأزلیة الدائمة السرمدیة الأبدیة وعلى جمیع إخوانه من الأنبیاء والمرسلین والملائكة المقربین وآله كلھم، والصحابة أجمعین، والأولیاء، والصالحین) نفعنا الله - تعالى - بھم، .وجعلنا منھم آمین .
وبعد
فقد أجرى الحق - تعالى - یدي تسطر ھذه الأسطر؛ فأجابت منقادة، على وفق ما قدر لھا فى مكنون الغیب، مع أن نسبة التسطیر لھا كنسبة القلم له. وفي الحقیقة إنما یحرك القلم ید الكاتب فنسبة الكتابة للقلم نسبة مجازیة. وإنما القلم والكتابة من آثار فعل الكاتب. وفى الحقیقة أن الجمیع من آثار فعل الحق، لقوله تعالى : {واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.(الصافات :96)
آثار أفعاله في الكون ظاھرة ... وكلّ أفعالنا آثار أفعاله
فلما أن كان كذلك كتب :
جمع في فرق
إن من الأمر الإرادي القدیم الأزلي تفریق النوع الإنساني في القبول وعدمه فرقا. ثم إن مرجعھا :
لفرق ثلاث :
- الفرقة الأولى، وھى أشرف الفرق، وأكملھا : قوم ذاقوا المقصود وھم صنفان: أكملھا قوم كابدوا النفوس، والأھویة، والخواطر، والأغراض، ولزموا المجاھدة للنفوس على المبادرة لقبوله امتثال الأمر والنھى. فإن النفوس الغیر زكیة مجبولة على حب السكون إلى اللذات والشھوات البھیمیة، والإعراض عن قبول الحق، والمیل إلى الكسل والراحة. فلما أوقظت نفوس ھذه الفرقة بزواجر الحق تعالى، وفھمت بعنایة الله تعالى أن الإشارة إلیھا شرعت فى المبادرة إلى الامتثال أبت النفس أو انقادت. وذلك دلیل على عنایة الحق تعالى بھا، فلازموا النفوس بالمجاھدة وقتا، وبالانقیاد وقتا إلى أن حصل لھم الظفر بھا فاستقامت، وانقادت، وزكت، وطھّرت، فحینئذ أخذت في قطع ما انطوى فیھا من حجب العوالم، والأغیار، والإلھات، والمعبودات، من كثیف ولطیف، ودنى وشریف وأقبلت على الحق تعالى من غیر أن تتعلق بشيء غیره مطلقا مستصحبة الإخلاص والصدق، متحققة بالإفلاس المحض، والفقر، والفاقة، ملازمة ذلك في جمیع الأحوال. وتمر أجزاء الأنفاس إلى أن ناداھا الحق تعالى بالجذب عن كلیتھا وأغرقھا فى بحار الذات، وتیار الصفات. فلا رسم، ولا وسم، ولا عین، .ولا أثر، ولا ذوق، ولا فھم، ولا علم، ولا خبر.
سوى ما كان فى أزل ... فما أتاه فالبشر
فھي غارقة في ھذا البحر الأطلس أبد الأبد، ورجعت لما كانت علیھ أولا، {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(البقرة:245) فلم یزل ھذا الصنف بھذا الوصف في جمیع الأحوال، من أكل، وشرب، ونكاح، وأمر، ونھي، وتعاطى أسباب، وغیر ذلك. لا ینفكون عما ھم فیه، فإنھم غرقا في ھذا البحر قھرا علیھم. فإن ظھر للخلق تنوع أحوالھم. إنما ھي أوصاف الحق تظھر في مرآة أثر اسمه الظاھر على ظواھرھم لقوله صلى الله علیھ وسلم: (المؤمن مرآة أخیه) فعلى المسترشد الإقتداء بھؤلاء، والاھتداء بھم لطرق الھدى، وسبل الاستقامة. فإنھا غامضة لا تسلك ولا تولج إلاّ على ید من كان بھذا الوصف.
وأما الصنف الثاني، من الفرقة الأولى : فقوم ذاقوا المقصود، وھو أن ناداھم الحق تعالى بالعنایة من غیر سابقة عمل، ولا مجاھدة نفوس، ولا مكابدة أھویة. فھم ذاقوا المقصود غیر أنھم لم یذوقوا الطریق إلى المقصود، فلعل ھذا الصنف ینكر ما یقع للصنف الأول من مجاھدة النفوس ومخالفتھا، وحبسھا عن متابعة الھوى، وسجنھا في أخلیة المجاھدات. فإن فعل ذلك فمعذور. لأن الحق تعالى لم یطلعه على ذلك، ولو منّ علیه فأراد له الكمال ردّه للسلوك، فكان من الصنف الأول غیر أنھ ما ردّ، ولھذا أنكر. وفى الغالب من جھل شیئا أنكره.
الفرقة الثانیة: قوم قبلوا ھذا الأمر، واعتقدوا صحته من غیر أن یقع لھم فیه شيء، ولا ذاقوا منه، ولا من الطریق إلیه شیئا، غیر أنھم آمنوا به بالغیب. وذلك لتوفیق الله تعالى لھم. فحصل لھم .بالإیمان به الولایة. وھم في ذلك متفاوتون.
- فمنھم: ضعیف الاعتقاد، ناقص الإیمان .
- ومنھم: من لا یزال اعتقاده یزداد ویقوى یقینه، حتى ینكشف له شيء من العلامات، فحینئذ یشتاق، ویحن، ویبادر بكلیته للإقبال على الحق والإعراض عن الأغیار. ولا یزال كذلك، والواردات ترد علیه شیئا فشیئا إلى أن ینكشف عنه الغطاء فیقوى یقینه، ویتم إیمانه، ویصیر من الصنف الأول من الفرقة الأولى. وكل ذلك بتوفیق الحق تعالى له إلى حسن الاعتقاد أولا، والإیمان بِالْغیب فدخلت ھذه الفرقة فى مدحة الحق تعالى بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. «البقرة آية 3»
الفرقة الثالثة: قوم أنكروا ھذا الأمر فیعذرون، وذلك لأمور .
- منھا: عدم العنایة بھم، وتھیئتھم لقبول ھذا الأمر .
- ومنھا: لقصور أفھامھم . - ومنھا: أن عقولھم محجوبة عن دركه، لأن العقول لا تدرك إلاّ ما ركب وشخص لھا، والمعان تشخص في هذه الدار لا لذوى البصائر النافذة. وأما من حجبه الحق بما شاء لا یدرك، ولا یفھم، ولا یعقل، ولا یبقى، ولا یفقه من المحسوسات والمعاني إلا ما شاء الحق تعالى له. ولو كان أعقل الناس وأنفذھم سمعا وبصرا وأغزرھم علما وفقھا لقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ} (الجاثیة :23 ). فھذه الفرقة في ستر الحجاب المحطوم عليهم به المأمورون بالسعي في أسباب لإزالته وكشفه فإن ساعجتهم العنايو زال، وإلا فلا.
إن الحق سبحانه وتعالى نوَّع الناس أنواعا.
فنوع منھم: حُجبوا بتعلق ھمتھم بالسوابق، فھم مشغولون بھا فى غالب أحوالھم، فربما إذا رأى أحدھم من یدخل فى خلوة المجاھدات، ومخالفة النفوس، وتھذیب الأخلاق، ینكر علیه ذلك، ویبادؤه بالزجر والرّدع، أو یشیر إلیه بوجه یفھمه أن الذي یفعل خطأ من غیر أن یعرف مقصده في ذلك. وربما یقول له : من سبقت لھ العنایة لا یحتاج إلى ھذا التعب. أو یقول له : الولي من كانت له الولایة فى القدم. وكلامه ھذا صحیح غیر أن فیه إشارة لتعطیل أوامر الشریعة. فإن الحق تعالى أمرنا بقتال من يلينا من الكفار بقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:123).
فكان من جملة من یلینا من الكفار نفوسنا فإنھا أعدى الأعادي إلینا لقوله صلى الله علیه وسلم : (أعدى أعداؤك نفسك ... ) الحدیث. فدخلنا في عموم الأمر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا}الآية. فكان من جملة ما أمرنا به قتال النفوس، والإغلاظ علیھا ووجب علینا المبادرة لامتثال ما أمرنا به؛ فالمنازع لا یخلو .
- إما أن یكون الحق تعالى حجبه عن إطلاعه على ھذه الدسیسة ومعرفته بھا.
- أو لأمر أراده الحق تعالى لا نعرفه
فإن منّ الله تعالى علیه بزوال الحجاب علم أن العبد من حیث ھو قد وجب علیه المبادرة لامتثال الأمر والنھى، من غیر تطلع لسوابق ولا غیرھا، وجاھد نفسه على فعل ما جاء عن رسول الله صلى الله علیه وسلم وترك ما نھى عنه، على أیدي وارثیه صلى الله علیه وسلم فى كل زمن فیقفو آثاره صلى الله علیه وسلم على ید الوارث مدة حیاته نَفَساً فَنَفَساً.
وأما النوع الثاني :
فقوم حجبوا لشغلھم بالنظر فى العواقب ففي الغالب ھممھم متعلقة بالنظر فیما یراد بھم. فلعل أحدھم إذا رأى من یشیر لأحد من أھل زمانه بالتقدم أو الكمال فیقول : من أین لنا أن نقطع بھذا. فإنا لا ندرى بما یختم له ؟ و ربما یطلع على شيء من آداب المشایخ للمریدین وأمرھم أن یكون الشیخ عند المرید أكمل أھل زمانه، أو غیر ذلك من الآداب فیقال له : إن ھذا الطریق مبنى على التوحید . والتوحید: إفراد الحق تعالى .
والفرد: ھو الوتر، لقوله صلى الله علیه وسلم : (إن الله وتر یحب الوتر) الحدیث.
فأول ما یدخل المرید فى الطریق یلقن كلمة: (لا إله إلا الله) ثُلاثا. فكان أول الطریق وترا وآخرھا التوحید، وھو وتر. فالمرید مأمور بالوتریة فى جمیع أحواله. فلزم من ھذه الوتریة أن یكون شیخه عنده أكمل أھل زمانه لتحققه بأنه قیم بتأدیبه، وتھذیبه، وتعریفه طریق السلوك الجامعة لكل وصف محمود ومذموم، وأن شیخه أجدر بذلك من غیره لینفذ فیه قول الشیخ، ویستعد باطنه لسریان حاله، وتصفو له صحبته فتعلق المرید بالشیخ لیس ھو تعلق ذاتي، وإنما ھو تعلق روحاني. فتعلقه لیس إلا للمعارف التي یجریھا الحق على لسانه. وقد ضرب الحق تعالى لنا فى ذلك أمثلة ظاھرة. وھو أن الید أو الرجل، أو العین، أو الأذن، إذا كان أحدھم معدوم الحركة أو الرؤیة أو السمع فلا فائدة بوجوده. فحاجتنا إلیھم إنما ھي لوجود بلوغ مقاصدنا ومآربنا بھم. فتعلقنا بالمشایخ إنما ھو لضرورتنا، فإذا رأینا من ھو أجدر بمعرفة طریق السلوك سلمنا له وامتثلنا أمره. ولا نلتفت لما بینه وبین الحق؛ فمتى راعینا ذلك وتحققنا خطاه، أو توھمناه وقع منا الخلل فى قبول كلامه، ومنع حجاب فساد اعتقادنا سریان حاله فینا، غیر أن یجب على من أراد السلوك طلب الدلیل كما ذكرنا، فإن رأى المرید مددا من أحد من أھل زمان شیخه أو غیر زمانه، فإنما یكون بعنایة الحق تعالى ل لولادته المعنویة، وقد شاھدنا ذلك مرارا فى البدایة. فربما رأیت شخصا غیر شیخي یمنحني شیئا فأتناوله من یده فأتأملھا فإذا ھي ید شیخي، فأتحققھا وأقبلھا.
فالشیخ لما كان قائما بإذن الحق تعالى ورسوله صلى الله علیه وسلم على الوجه المرضى المعتبر عند ھذه الطائفة ساعده كل شيء من نبي وولي. فلما كان كذلك وجب على الطالب التعلق بھذا الدلیل لمعرفته بالطریق الحق الموصلة ودرایته بآفاتھا، وعوائقھا، وعقباتھا، وأھوالھا، وخبرته بدسائس النفوس، ورعوناتھا، ومعرفة أدویتھا، وأدوائھا، وحظوظھا في حال كثافتھا ولطافتھا. وقد أوجب الحق تعالى علینا أیضا الاشتغال به والإقبال علیه. ولسنا نعرف كیفیة ذلك، فوجب علینا طلب الدلیل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(المائدة:35) فإذا أوجدنا الدلیل تمسكنا به تمسك الأعمى بالقائد على شاطئ لبحر، وسلّمنا له كما یسلم المریض المنصف للطبیب الحاذق. وأما اعتقادنا الكمال في الدلیل أو عدمه فلا یعود علیه منه شيء من نفع ولا غیره. فإن الكامل مقتف آثار رسول الله صلى الله علیه وسلم لا ینفك عن متابعته ذرة ولا أقل منھا، فإن أولى به من نفسه لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(الأحزاب:6). فإذا كان كذلك فقد قال تعالى لرسوله صلى الله علیھ وسلم: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖأَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (یونس:41) وقال تعالى : {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(الشعراء:216) وقال تعالى في حق نوح عليه ِالسلام: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} (ھود:24) فأھل الكمال تأدبوا وتھذبوا بأخلاق رسول الله صلى الله علیھ وسلم. فلیس لھم مع الحق تعالى نسبة إلاّ ما نسبه إلیھم وكلفھم به. ومن المعلوم أن عمل كل إنسان إنما ھو عائد على نفسه لقوله تعالى:{لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}ولا شكّ ولا ريب أن الاعتقاد عمل قلبي لقوله تعالى :{بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}(البقرة:225) فحینئذ اعتقادنا الأكملیة في الدلیل إنما ھو عائد علینا. لقوله صلى الله علیه وسلم : (إنما ھي أعمالكم ترد علیكم). وفى الأحادیث الصحیحة تشخیص الأعمال الصالحة بالرجل الصالح وبضده بالأعمال السیئة.
وقد قیل: إن الحق تعالى یظھر لأھل الموقف في صور أعمالھم، واعتقاداتھم التي كانوا یعتقدونھا فى دار الدنیا. فوجب علینا اعتقاد كمال الدلیل، فإن الله تعالى منّ علینا به، وبمتابعته، واقتفاء آثاره،ولیس ھذا من قبیل التزكیة على الله تعالى، كما قال بعض الفضلاء مستدلا بحدیث: (لا تزكوا على الله ... ). ومعناه، والله أعلم :
أي لا تعظموا على الله أحدا. فإنه ورد فى نص القرآن فى غیر ما موضع مدح أقوام، وذم آخرین وتخصیص مولى بأوصاف محمودة، ومولى بأوصاف مذمومة. ولا شك ولا ریب أن من مدح فى نص القرآن فھو مزكى، ومن رأینا فیه الأوصاف التي وردت في نص القرآن زكیناه على غیره. وقد ورد أن عائشة رضوان الله تعالى علیھا أجابت حین سألھا الأعرابي عن خلق سیدنا رسول الله صلى الله علیھ وسلم فقالت: (كان خُلُقُهُ القُرْآن) فھو صلى الله علیھ وسلم الجامع لجمیع الأخلاق الحمیدة والأوصاف الجمیلة الذكیة الطاھرة. فمن اقتفى آثاره صلى الله علیه وسلم وتخلق بأخلاقه، وتحققنا منه ذلك على وفق ما منّ الحق علینا به من الوھب الإرادى القدیم الأزلى، فلیس لنا عنه انفكاك ألبتّة إلى أن یخرجنا الحق تعالى على یدیه من رقّ الأغیار، ومطالعة الرسوم والآثار ویلقینا فى تیار بحار التوحید. وأمّا شغلنا بالسوابق واللواحق، وطلب رؤیة المقامات، والرتب ومعرفتھا فالاھتمام بذلك یوجب التفرقة والانقطاع عن المقصود الذي نحن بصدده وھو التوحید الواجب على الخلق معرفته والاشتغال به والغرق فیه"
وأما النوع الثالث :
فقوم حُجبوا لشغلھم بمراعاة الوقت، فغالب أحوالھم یراعون أوقاتھم حتى لعل أحدھم تمرّ به أوقات لا یسع فیھا أحدا لقوة مراعاته للوقت وخوف فواته، فھو مراع أوقاته وأنفاسه. ولھذا قالوا: الصوفي ابن وقته، لا یشتغل بماضي ولا مستقبل. فھذا النوع أكمل من النوعین المتقدمین غیر أن فیه علة. وھو حجبه بشھود رؤیة الوقت دون الوقت.
وأما النوع الرابع :
فقوم اشتغلوا بشھود رؤیة الوقت عن رؤیة الوقت. بل غابوا عن شھود شھودھم ورؤیة شغلھم به. بل غابوا عن نسبھم وإدراكاتھم بل غابوا عن غیبتھم بل أطمسھم الحق تعالى فى بحار التوحید فلا معنى ولا حس، ولا علم، ولا ھدى سوى ما كان فى أزله فما أشھى ھذا الطمس. فلما طمست جمیع جزئیاتھم وكلیاتھم صاروا طمسا فى طمس. فھم فى ھذا الطمس لا ینفكون عنه ولا یخرجھم منه كلام أو أمر أو نھي. وإنما المحرك لھم فى ذلك الحق تعالى لقوله تعالى :{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(الصافات:96) وقوله صلى الله علیه وسلم : (ما قلته، ولكن الله قاله). وقوله صلى الله علیه وسلم : (قال الله على لسان عبده. سمع الله لمن حمده). و قوله في الحدیث الصحیح الإلھي: (فإذا أحببته).فھم في ھذه الطمسة متفاوتون على وفق القسمة الأزلیة.
- فمنھم: مَن من أول وھلة یطمس فلا یزال كذلك من غیر أن ینشأ إنشاءاً ثانیا.
ومنھم: من یرقیه الحق سبحانه وتعالى، وھو أنه لما أن یطمسه ینشئه نشاءا ثانیا فى حال الطمس موافقا لما طمس فیه فیدرك ما طمس فیه بما طمس فیه من غیر انفكاك عنه. فلا یزال یطمس وینشأ إلى حیث شاء الحق تعالى من حیث لا حیث، وكل من تنوع علیه الطمس وتوالى علیه الإنشاء كان أتم وأكمل ممن طمس، ودامت طمسته، والمرجع في ذلك كله لمراد الحق تعالى فیما قسم وقدّر من الأزل. والله أعلم.
جمع في جمع
اعلم أن الحق سبحانه وتعالى لما أن شرف ھذا النوع الإنساني جعله مجمع عالم الغیب والشھادة ووجھ إلیه أمره، ونھیه، وأحكامه، وحكمه، فكانت الإشارة إلیه، والمدار علیه، وجمع فیه جزئیات الكلیات وكلیاتھا، فھو جامع الجوامع، ومورد الواردات الروحانیات والجسمانیات فما من كثیف ولطیف، ودني وشریف، وجوھر وعرض، ونفیس وخسیس، ونور وظلمة. إلاّ وھو مندرج فى ھذا الھیكل اللطیف الحاوي لجمیع الأشیاء. ولھذا توجھت إلیه كلیات الكائنات على عظمھا، ووسع دوائرھا، وسماكة رتقھا، وتوجھھا إلیه. إنما ھو لأجزائھا المنطویة فیه، وھو توجه تعشق روحاني، وربما تتوجه الأجزاء لكلیاتھا: فتارة تتوجه الكلیات إلى أجزائھا. وتارة تتوجه الجزئیات لكلیاتھا. وذلك تعشق البعض الكل، أو الكل البعض. فلما أن صار ھذا الإنسان جامعا لأجزاء الكائنات حاویة دائرته جمیع الدوائر وكان فى الأزل القدیم إرادة الكمال له بإبرازه فى الوجود الكوني أبرز فحینئذ ستر بحجب ما انطوى فیه فبینما ھو في ظلم غیاھب حجب الجھالات إذ سمع قوله تعالى :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56).
قال ابن عباس رضي الله عنھم: أي، لیعرفون. فوجب علیه الخروج عن ھذه الدوائر المنطویة فیه، والحجب الساترة له، والغرق في تیار بحار التوحید فتأمل بعقله وفكره كیفیة الخروج فلم یجد إلیه سبیلا. فبینما ھو فى الحرة إذ سمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة:35) فسعى في طلب الدلیل الذي یعرف كیفیة الخروج عن ما انطوى فیه وجد في الطلب فوجد خلقا كثیرا ممن ینسب نفسه إلى الدلالة والمعرفة فاشتبه علیه الحال، وصار لا یدرى بمن یتمسك فوفقه الحق تعالى لعنایته به أن یتوجه إلیه سبحانه بالإخلاص والصدق والفقر والفاقة أن یجمعه على أكمل أھل زمانه وأعرفھم بالحق تعالى وبالطریق إليه وأخشاھم له. فأكمل - سبحانه وتعالى - المنّة علیه وجمعه بمن اتصف بالكمال المستحق للوراثة، والاستخلاف العاري عن النسب إلاّ ما نسبه الحق إلیه. فلما وجده سلم إلیه الانقیاد، وقال: لیس لي منى شيء، فأمره حینئذ بالخروج عن ما انطوى فیه، والمسارعة في أسباب ذلك. فإن نازعه فى ذلك نفوسه وأھویته، وخواطره الردیة أمره بمجاھدتھا، ومخالفتھا، والاستعانة علیھا بباریھا، ومالكھا القادر على خلاصه منھا، وخروجه عنھا فعند ذلك أخذ فى المحاربة والمجاھدة على وفق ما یشیر له به شیخه فصار یقطع الأشیاء المنطویة فیه شیئا فشیئا بالتدریج فى وقت، وقد یقطعھا مع العنایة دفعة واحدة فى وقت أو أكثر. وكل ذلك لعنایة الحق تعالى به، وإرادته إكماله لأنه - سبحانه وتعالى - أطلعه على ما انطوى فیه، ولم یتطلع على ذلك من قبل. فلما أن منّ الحق تعالى علیه، ووفقه للزوم المجاھدات والمكابدات، وذبح النفوس بسیوف المخالفات، وأتم له النعمة بجمعیته على الدلیل الكامل. وأخرجه الحق تعالى على یدیه من رق الأغیار، ولحظ الآثار، وأغرقه في تیار أمواج بحار التوحید وأطمسه فیھا. فحینئذ عدم الإدراك، والإحساس، فلا یشعر ولا یدرك، ومحقت آثاره البشریة. جاءته العنایة والإمداد من الله تعالى وردّه إلى مقام النھایة، بعد الفناء فیه، وصار له سمعا، وبصرا، ولسانا، ویدا. فتكلم، وسمع، وشاھد، ما لا یدرك، ولا یعبر عنه، وقال: أنا الحق، وأنا الخلق. وأنا الرتق، وأنا الفتق، وأنا العین وأنا الغین، وأنا الجمع وأنا الفرق. فلما خصصه الحق تعالى بھذا التخصیص جعل فیه قابلیة الحجاب والشھود، فصار ذو وجھین: وجه الحجاب، ووجه الشھود.
فوجه الحجاب: دائرته جامعة لدوائر الكائنات فأكبر الدوائر وأعظمھا فیه كالذرة في جانب العرش، وما كانت بوصف الذرة إلاّ في دائرة وجه الحجاب .
وأما وجه الشھود الذاتي: فلا أثر لھا ولا وجود، فإنه لا بقاء لشيء مع وجود الظھور الذاتي. والله أعلم.
إن الحق سبحانه وتعالى بصرنى القرطاس وما فیه، والعلم، وذاتي، وفھومي، ومذاقاتي، ونسبي، وإدراكاتي. فإذا ھي مسخرة في قبضة قھر الأحدیة. وإن الخلق، والأمر، والرزق، والإبداع، والاختراع فعل الألوھیة. وإن جمیع الكائنات من آثار الأفعال فھي منسوبة لھا حینئذ لإبقاء الآثار مع ظھور المؤثر. ثم إن الآثار مع وجود قھرھا مأمورة مكلفة لقبول امتثال الأمر والنھى، مطالبة للقیام بذلك. فكما أنھا لا تنفك عن القھر بتعرفھ القضاء والقدر فیھا. وكذلك لا تنفك عن المطالبة بالقیام بالأمر والنھي، ولیس لھا حجة ولا قدرة على ترك أحدھما. ثم إنھا في حال القضاء والقدر مقھورة. وفى حال الأمر والنھى مقھورة ما لم یتفق الحالتین. فأما إذا اتفقا فھي السلامة والغیب لا یعلم. والله أعلم.
فرق
ما سطر في ھذه الورقات یشیر إلى التنویه بأكملیة السالك الذائق، على غیره ممن ذاق، ولم یسلك. وذاك لأن الحق تعالى أوجد في الموجود الإنساني جمیع الموجودات، من لطیف وكثیف، وفى ذلك تنویه بمزیته على غیره من الموجودات. ثم إن الموجود الإنساني لما أن كان جامعا كاملا تنوع .بتنوع قابلیاته. فمن ثمة وقع التفاوت فى ھذا النوع.
- فمنھم: من كشف له عن ما انطوى فیه من الموجودات بملازمة المجاھدات والصبر علیھا ثم بعد - .ذلك العناء ذاق المقصود بواسطة العنایة ھذا یسمى سالكا ذائقا فحصل له الكمال.
- ومنھم: من ساعدته العنایة فذاق المقصود من غیر عناء ھذا یسمى ذائقا، غیر أنه ما سلك، فإن - رده الحق تعالى في تنزلات معارج، مرآئي مراتب السلوك، سّمي ذائقا سالكا، فحصل له الكمال بالسلوك.
والسلوك ھو: أن یشھد السالك ما انطوى فیه من أجزاء الكائنات الوجودیة من عالم الملك، وعالم الملكوت. وھى من علامات الطریق ولھذا قالوا: لو لا العلامات لادّعى كل أحد الكمال. فالسالك إذا أخذ في السلوك اطلع على ما انطوى فیه من الأخلاق المحمودة، والمذمومة، وكل خلق من أخلاقه المذمومة له نوع من الحیوانات والأشباح الخبیثة الشیطانیة. فإذا رأى السالك شیئا من تلك الحیوانات كان دالا على حاله في خلقه المخصوص به ذلك الحیوان، فإن رآه ضعیفا، أو قویا، أو غیر ذلك كان دالا على ما فیه من الخلق الموافق له. وأما الأخلاق المحمودة فلھا أیضا من الحیوانات الحسنة، والنباتات، والأزھار، والریاض الأنیقة، والأرواح الطیبة، والأسرار، واللطائف، والعلوم، والمعارف، ما لا یسخر، ولا یعرف ذلك ویعبر عنه إلا من سلك وشاھد ذلك كله في حال سلوكه، وھذا من بعض علامات السلوك. فإن علاماته لا تتقید ولا تنضبط، غیر أن العارف الأستاذ إذا ورد علیه فقیر سالك وذكر له واقعته. استدل بذلك على حاله، وعرف ما ھو فیه بحسب ما یطلعه الحق تعالى علیه من المعرفة. ولھذا وجب على السالك أن یذكر جمیع ما یرد على باطنه وظاھره من محمود ومذموم لشیخه، وأن لا یكتمه شیئا قلّ ولا جلّ، فإن كتمه شیئا كان خائنا، والله لا یحب الخائنین، ولھذا قالوا: لیس من شرط الشیخ أن یطلع على باطن المرید ولكن من شرط المرید أن یذكر جمیع ما خطر بقلبه لشیخه.
جمع
إن الأحدیة المطلقة عن قید الإطلاق ثبت وجودھا بثبوت وجود ذاتھا المطلقة، فتجلت في مكنون غیبھا كیف شاءت؛ فظھرت الواحدیة بأنواع التجلیات الأسمائیة، والصفاتیة فتعددت الآثار لتعدد مظاھر الأسماء والصفات، فأجاب كل أثر مظھر الاسم الداعي له فبرز فى الوجود المقیّد على وفق ما قدر ف ى المكنون الغیبي.
ثم إن ھذه الآثار لما تعددت وتنوعت وقع بھا التفاوت من حیث قابلیتھا فلما كان كذلك صار منھا: ما ھو القابل لجمیع الواردات الاسمائیة والصفات على اختلاف تنوعاتنا واتخاذ أعدادھا. فالمتصف .بھذا كاملا .
ومنھا: ما یقبل بعض الأسماء والصفات دون سائرھا فالمتصف بھذا لیس بكامل وھو دون الأول.
ومنھا: ما یقبل وجھا من الاسم دون سائر وجوھه فإن لكل اسم وصفة وجوھا لا تحصى ولا یدركھا إلا البعض من أصل الكمالات المتحقق بجمیع وجوه الأسماء والصفات ولیس یخرج أثر عن ھذه الوجوه فإن فى كل أثر قابلیة لداعیة فلا یدعى إلا على قدر قابلیتھ فكذلك لا یقبل إلا على قدر داعیھ فمن الآثار من تدعوه جمیع الأسماء والصفات فیجیب بحسب ما دعاه فلھذا كان قابلا لھا.
- ومنھا: من تدعوه أسماء معینة، ومنھا من یدعوه اسم واحد فلا یقبل غیره لعدم قابلیته له.
- ومنھا: من یدعوه وجه من اسم دون سائر وجوھه، فإن الاسم في نفسه قابل لجمیع الأسماء والصفات؛ فتتعدد وجوه الاسم من حیث تعدد الأسماء والقابلیة نفسھا تتنوع وتتعدد بتعدد الأحوال وتنوعھا، لتغایر تفاوت المحمود منھا والمذموم. ثم إني اعتبرت بمعیار عقل المودع حسب ما سبق فى مكنون غیبي المستخرج من ركن العدم التقییدي إلى وجوده فرأیت اختلافا .وتنوعا لا یكاد ینحصر وذلك لحكم ظاھرة وأسرارھا بھا قائمة.
فتحققت أن لا مضاددة ولا اختلاف، لأن كل ضد مواز ضده بمیزان الاعتدال والمقابلة فإن بوجودھما استقام وجود الكائنات وظھرت الحكم عند شھود بروزھا فى عالمي الحكمة والقدرة.
- فصاحب الحكمة والشھادة مقید بقیود لا یكاد یدركھا.
- وصاحب القدرة والغیب مطلق من كل قید.
- وذوا الوجھین الكامل الجامع مطلق من وجه، ومن وجه مقید.
فوجھي إطلاقه وتقییده لم یدركا لوسع دوائره وعظمھا، وعدم انتھائھا، وغایتھا.
- وصاحب وجه التقیید یشھد الكامل مقیدا.
- وصاحب وجه الإطلاق یشھده مطلقا. وكلاھما صادق في شھوده لم یطلع على غیر حقیقة وجوده فإنه لا یمكنه أن یرى غیره لوجود قیده وقصوره، وإن كان صاحب وجه الإطلاق لكونه مقیدا بقید إطلاقه غیر مقید بقید التقیید والكامل جامع لھا. فھو صاحب الوجھین، والعینین، والجناحین، والقدمین، والسمعین والذراعین، والنعتین، والوصفین. فھذا ھو الخلیفة المستحق للوراثة والتوریث الجامع لجمیع أجزاء كلیات الذرات الوجودیة والإطلاقیات الكلیة، والمنح الوھبیة والأسرار الموھوبیة وصاحب أحد الوجھین لا یوصف بھذا الوصف ولا ینعت بھذا النعت .فإنه غیر جامع الضدین ولیس بحاوٍ للوجھین.
{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة:245).
نھایة الرسالة
والحمد وحده، وصلى الله وسلم على سیدنا محمد الفاتح لما أغلق
الناصر لما سبق، معدن الكمالات
ومنح الھبات والعطیات
ومعدن التجلیات
ویلیه "دلیل الطالب على القصد في المطالب"
تألیف العارف الكبیر المذكور أعاد الله علینا من بركاته ونفحاته