200 - لا تُدْهِشْكَ وارِداتُ النِّعَمِ عَنِ القِيامِ بِحُقوقِ شُكْرِكَ. فإنَّ ذلِكَ مِمّا يَحُطُّ مِنْ وُجودِ قَدْرِكَ.
قلت: قد يتفكر الإنسان في نفسه و ما به من النعم فيجد نفسه مغموسا في النعم حسية و معنوية، فينظر في نعمة البصر، في نعمة السمع، في نعمة الشم، في نعمة الذوق، في نعمة الكلام، في نعمة العقل، في نعمة اليدين، في نعمة الرجلين، في نعمة الصحة و العافية، في نعمة الكفاية، في نعمة الأهل، في نعمة الأولاد، ثم في نعمة الهداية إلى الإسلام، ثم في نعمة الإيمان، ثم في نعمة الطاعة، ثم في نعمة العلم، ثم في نعمة من يستعين به من الإخوان، ثم في النعمة الكبرى: نعمة الشيخ، فيما أعد اللّه له بعد الموت الذي لا نهاية له، فإذا وجد نفسه مغمورا في النعم فلا يدهش منها و يتحقر في نفسه عن القيام بشكرها، فإن الاعتراف بها و معرفتها و الإقرار بها أنها من اللّه بلا واسطة هو شكرها، و قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2]، كاف في شكر اللسان، ألا ترى أن الجنة هي من أعظم النعم؟ فكان شكر أهل الجنة فيها: الحمد للّه رب العالمين، قال تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10]، و قد جاء في بعض الأخبار أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك و أنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة من نعمك، و نعمتك توجب علي الشكر، و الشكر نعمة يوجب الشكر أيضا؟ و هكذا، و أنشد بعضهم في هذا المعنى:
إذا كان شكر اللّه للعبد نعمة عليه من اللّه لها يجب الشكر
فكيف له بالشكر و الشكر نعمة و لو والت الأحقاب و اتّصل العمر
و قال آخر:
لك الحمد مولانا على كل نعمة و من جملة النّعماء قولي لك الحمد
فلا حمد إلا أن تمنّ بنعمة فسبحانك لا يقوى على حمدك العبد
فأوحى اللّه إليه: إذا عرفت أن النعم كلها مني فقد شكرتني، و قد رضيت منك بذلك. و في رواية أخرى: قال داود عليه السلام : إلهي إن ابن آدم ليس فيه شعرة إلا و تحتها نعمة وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها؟ فأوحى اللّه تعالى إليه: يا داود إني أعطي الكثير و أرضى باليسير، و إن شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. و كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز رضي اللّه تعالى عنه إليه: إني بأرض و لقد كثرت فيها النعم، و لقد أشفقت على قلبي ضعف الشكر، فكتب إليه عمر: إني كنت أراك أعلم باللّه مما أراك، إن اللّه تعالى لم ينعم على عبد نعمة فحمد اللّه عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب اللّه المنزل قال تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، و قال تعالى: {وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}[الزمر:7]، ثم قال: {وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ}، و أي نعمة أعظم من دخول الجنة؟ انتهى.
و لما كان أعظم النعم و أشرفها هو دواء القلب، و شفاؤه من مرض الهوى، الذي قيده في سجن الغفلة، و عرضه لغضب المولى، نبّه الشيخ على ذلك ليعرف العبد قدر هذه النعمة إذا كان شفاه اللّه، أو يطلب من اللّه إخراجه من تلك الغمة، إذا لم يكن شفاه اللّه، فقال:
201- تَمَكُّنُ حَلَاوَةُ الهَوَى مِنَ القَلْبِ هُوَ الدَّاءُ العُضَالُ.
قلت: حلاوة الهوى على قسمين: هوى النفس، و هوى القلب.
فهوى النفس: يرجع لشهواتها الجسمانية: كحلاوة المآكل و المشارب، و الملابس و المراكب، و المناكح و المساكن. و هوى القلب: هو شهواته المعنوية: كحب الجاه و الرياسة، و العز و المدح، و الخصوصية و الكرامات، و حلاوة الطاعات الحسية، كمقام العباد و الزهاد، و حلاوة علم الحروف و الرسوم. فأما علاج هوى النفس: فأمره قريب، يمكن علاجه بالفرار من أوطان ذلك و الزهد و صحبة الأخيار. و أما علاج هوى القلب: إذا تمكن فهو صعب، و هو الداء العضال الذي أعضل الأطباء: أي أعجزهم و حبسهم عن علاجه، فلا يزيده الدواء إلا تمكنا، و إنما يخرجه وارد إلهي بعناية سابقة بواسطة، أو بغير واسطة كما أشار إلى ذلك بقوله: