يقدّم الله تعالى في القرآن الكريم أمثلة من الطبيعة، ويحثّنا على التأمل فيها لاستخلاص الدروس والعِبَر.
«إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (الجاثية: 3-4-5).
لماذا يعرض الله علينا هذه الأمثلة؟
ليحثنا على التأمل والاعتبار، وندرك عظمته من خلال خلقه, وليُبيّن لنا أن الطبيعة يمكن أن تكون منبعًا للعبر والإصلاح. وبينما يستوحي البشر كثيرًا من الطبيعة لتطوير تقنياتهم، كما هو الحال في الأغراض العسكرية و الحربية مثل التمويه المستوحى من تغيّر ألوان بعض الحيوانات كالحرباء، فإن المؤمن يُدعى لاستنباط دروس أعمق تتماشى مع مقاصد هذه الآيات. فالأهم هو ما تقدمه هذه الأمثلة من دروس في التزكية الروحية وتقريبنا إلى الله.
ولنأخذ مثال الطريقة الصوفية التي يقودها شيخ عارف بالله و مربي، ولنقارنها بخلية نحل.
النحل والمريدون. ملكة النحل والشيخ في الطريقة
في خلية النحل، تضمن العاملات بقاء المستعمرة بجمع الرحيق وإنتاج العسل ورعاية اليرقات. أما الملكة فهي الركيزة الأساسية لاستمرارية الخلية من خلال وضع البيوض وتجديد المجتمع.
التشبيه بين خلية النحل والطريقة الصوفية غني بالعبر، ويمكن التوسع فيه في عدة اتجاهات:
1. دور المريدين/العاملات: مريدو الطريقة، مثل النحلات العاملات، يلعبون دورًا حيويًا في الحفاظ على الطريق واستمراريته. بفضل إخلاصهم وأعمالهم وتضامنهم ودعمهم المادي، يساهمون في ازدهار الجماعة الروحية، كما تقوم العاملات بحفظ الخلية من خلال إنتاج العسل. إنهم يعملون بإيثار، ويضعون مصلحة الجماعة فوق كل شيء.
أحد الجوانب المهمة في هذا الانسجام هو الدعم المتبادل، كما نراه عند النحل. في الشتاء، تتجمع النحلات في كتلة واحدة للحفاظ على الحرارة وحماية الخلية من البرد، وهذا السلوك الجماعي حيوي لبقائها. وبالمثل، يجب على المريدين تطوير أشكال مماثلة من التضامن، مثل زيارة المرضى والاطمئنان على من تغيب عن مجالس الذكر. هذا الدعم أساسي لتماسك الجماعة.
2. دور الشيخ/الملكة: الشيخ، كملكة النحل، هو المحور الرئيسي للطريقة. كما تضمن الملكة استمرارية الخلية بوضع البيوض، يضمن الشيخ استمرارية الطريق بتوجيه المريدين نحو الكمال الروحي. تأثير الشيخ، مثل فيرومونات الملكة (المواد الكيميائية المنبعثة التي تؤدي دوراً حيوياً في تنظيم وتنسيق أنشطة الخلية) التي تنظم الخلية، يضمن تماسك المريدين. غياب الشيخ يعني غياب الطريق، لأن “الطريقة هي الشيخ” (سيدي حمزة).
3. التماسك والازدهار: انسجام العلاقة بين العاملات والملكة هو ما يحدد ازدهار الخلية، كذلك العلاقة بين الشيخ ومريديه تضمن حسن سير الطريقة. المريدون يعتمدون على الشيخ في تقدمهم الروحي، والشيخ يعتمد على التزامهم لضمان استمرار الطريق. هذا التوازن المتبادل ضروري لبقاء الجماعة الروحية
ومع ذلك، هناك اختلاف جوهري يتمثل في أن النحل لا تمتلك إرادة حرة؛ فأفعالها موجهة بنظام طبيعي محدد مسبقًا. يُعلّمنا القرآن الكريم أن الله أوحى إلى النحل بمهمتها، فاستجابت دون تردد، كما جاء في قوله تعالى:
« وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًۭا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴿٦٨﴾ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًۭا ۚ يَخْرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٌۭ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٌۭ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَأٓيَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٦٩﴾» (النحل: 68-69)
في المقابل، في الطريقة الصوفية، يتمتع المريدون بإرادة حرة تتيح لهم اختيار السير على الطريق أو الانحراف عنه. ومع ذلك، على غرار النحل، تلقى المؤمنون أيضًا وحيًا وأوامر من الله. فالقرآن الكريم يُخبرنا أن الله أوحى إلى النبي سيدنا محمد ﷺ، كما أوحى إلى نوح والأنبياء الآخرين (4:163)، وإلى الملائكة (8:12)، وإلى أم موسى لحماية ولدها (28:7)، وحتى إلى الأرض يوم القيامة لتروي قصتها (99:4-5).
باستخدام مصطلح “أوحى”، يشير النص إلى أن أفعال النحل – بناء خلاياها، جمع الرحيق، وإنتاج العسل – هي توجيه إلهي وليس مجرد غريزة. فكما أرسل الله رسالاته إلى الأنبياء، وجه النحل بأمر مباشر. هذه الطاعة المطلقة للنحل هي تجلٍّ للخضوع الكامل لمشيئة الله، إذ أن إنتاج العسل المفيد للبشر هو جزء من نظام إلهي متناغم. استخدام “أوحى” بدلاً من “ألهم” يبرز أن أفعال النحل ليست مجرد استجابة فطرية، بل هي طاعة دقيقة لأمر إلهي.
في المقابل، يتمتع البشر بالإرادة الحرة، مما يتيح لهم اختيار الطاعة أو العصيان: “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ”. يمكن للبشر أن يبتعدوا عن طريق الخضوع لله، وهو ما يعني الابتعاد عن حالتهم كمسلمين، أي خاضعين لله. بالتالي، الوحي موجه إلى كل من النحل والبشر؛ بينما النحل يطيع دون تردد، يمتلك البشر حرية الاختيار، بما في ذلك القدرة على الطاعة أو العصيان. إن الإرادة الحرة، وما يصاحبها من إمكانية الطاعة أو العصيان، هي التي تبرر الدور التربوي للشيخ. فالملكة تلعب دورًا محوريًا في التكاثر والحفاظ على تماسك الخلية، لكنها لا تتدخل في تربية أو تطوير النحل بشكل فردي. وهذا غير ضروري، لأن النحل يتبع نظامًا محددًا سلفًا لا يمكنه الخروج عنه.
إن حرية الاختيار هي التي تفسر وجود الجنة والنار، كرمزين للمكافأة والعقاب.
الإرادة الحرة التي منحها الله للإنسان تتيح له أن يتصرف وفقًا لرغباته، لكنها تأتي بثمن: إمكانية العصيان. لهذا السبب، وُجدت الجنة للمطيعين والنار للعاصين. على العكس من ذلك، لا ينطبق هذا الأمر على النحل أو غيرها من المخلوقات التي تفتقر إلى الإرادة الحرة، فهي تلتزم بفطرتها التي أرادها الله لها وتسير على الطريق الذي رسمه لها. من خلال التزامها بهذه الفطرة الإلهية، تظل بعيدة عن الحساب والبعث، لأنها ليست مسؤولة عن أفعالها كما هو الحال مع البشر. وجود هذه المخلوقات ليس مرتبطًا بالاختيار الأخلاقي، بل بتحقيق مهمتها التي خلقها الله لأجلها.
وعلى عكس النحل، قد يتخلف بعض المريدين عن أداء واجباتهم في الطريقة. قد يختارون عدم المساهمة في دعم الطريق، أو يهملون في ممارساتهم الروحية، أو يتجاهلون إخوانهم الغائبين، أو ينخرطون في سلوكيات غير واضحة، أو يظنون أن بإمكانهم تفسير توجيهات الشيخ بما ي تناسب مع أهوائهم الشخصية.
النحل، على عكس البشر، يعمل دائمًا في انسجام تام، ملتزمًا بدوره الحيوي في الحفاظ على بقاء الخلية. تفانيه غريزي ومستمر، بينما يواجه المريدون تحديات الإرادة الحرة التي قد تعرضهم للابتعاد عن الطريق بسبب ضعف الحافز أو الانغماس في المصلحة الذاتية.
في حالات نادرة، قد يظهر سلوك انحرافي لدى بعض العاملات. على سبيل المثال، في حال غياب الملكة، قد تبدأ بعض العاملات في وضع البيوض، رغم أنهن غير قادرات على إنتاج ملكات أو عاملات؛ إذ تكون بيوضهن قاصرة على إنتاج ذكور فقط. يتم اكتشاف هذا السلوك من قِبل النحل الآخر، الذي يعاقب أو يتخلص من العاملات “الغشاشات”. وبالمثل، في المسار الروحي، قد يظهر بعض المدعين الذين يدّعون امتلاك السر دون امتلاك حقيقي له، مستغلين بلاغتهم لخداع بعض المريدين. هذه السلوكيات يتم كشفها من قبل المريدين الحريصين على نقاء الجماعة.
هذا التفاوت يبرز حجم المسؤولية التي تقع على عاتق المؤمنين: فبينما تتبع النحل غريزتها دون تردد، يجب على المريدين اتخاذ قرارات دائمة بالبقاء أوفياء للطريق، متغلبين على نقاط ضعفهم. الإرادة الحرة، التي تحمل في طياتها إمكانيات الارتقاء الروحي، تفتح أيضًا بابًا للخطأ والانغماس في الذات. هذه العوائق يجب على كل مريد التغلب عليها ليحافظ على التزامه الروحي.
في خلية النحل، يتم توزيع المهام بدقة وتناغم. النحل العاملات يجمعن الرحيق، بينما أخريات يعتنين باليرقات. هناك من يبني خلايا الشمع، ومن ينظم درجة الحرارة، ومن يحرس مدخل الخلية. كل نحلة تؤدي دورها المحدد دون تعدي على مهام الأخرى
أما في الطريقة الصوفية، فقد يسعى بعض المريدين أحيانًا إلى تولي مهام متعددة أو التدخل في مسؤوليات الآخرين، بل وحتى الانشغال بمهام تتجاوز حدود كفاءاتهم. وهو سلوك غالبًا ما ينشأ من تأثير الأنا، التي تعد عائقًا رئيسيًا يجب على المؤمن التغلب عليه. على عكس النحل الذي يعمل بلا أنانية أو منافسة، يواجه المريدون تحديًا مستمرًا في ضبط إرادتهم الشخصية وكبح ميولهم الأنانية، حفاظًا على الانسجام داخل الجماعة الروحية. فبينما تعمل النحلات بروح تعاون خالص، على البشر أن يتوخوا الحذر من تأثير الأنا التي قد تزعزع توازن توزيع المهام داخل المجتمع.
في الطريقة الصوفية، يظهر الخضوع لله من خلال التزام المريد بتوجيهات الشيخ المربي. هذا الخضوع يقرب المريد من طبيعة النحل، الذي يخضع بالكامل للوحي الإلهي. إن الطريقة تشبه خلية النحل، ولا يمكن أن تستمر إلا إذا أدرك أفرادها وقبلوا موقعهم كخاضعين لإرادة الله من خلال امتثالهم لتوجيهات الشيخ المربي، ملتزمين بأدوارهم دون التدخل في مهام الآخرين، وذلك للحفاظ على توازن واستمرارية الجماعة.
في عالم يمجد الإرادة الحرة، التي يُنظر إليها غالبًا كحرية مطلقة في الاختيار، والتي في الواقع تنحصر في أهواء الأنا ورغباتها، تبدو فكرة الخضوع للأمر الإلهي أقل انسجامًا مع “الحداثة”. في الطريق الصوفي، حيث يعتمد الارتقاء الروحي على توافق أفعال المريد مع توجيهات الشيخ المربي، قد تبدو هذه الفكرة متناقضة مع القيم المعاصرة. يميل المجتمع اليوم إلى تمجيد الفردية، مشجعًا كل فرد على اتباع رغباته الخاصة، بدلاً من الالتزام بمنهج روحي قائم على الخضوع، الامتثال والتواضع.
إلا أن المريد الصادق يدرك أن الخلاص الحقيقي يكمن في هذا الخضوع تحديدًا، لا سيما في زمن تتسارع فيه مظاهر الضياع والانحراف. الخضوع للأمر الإلهي واتباع إرشادات الشيخ ليس تقييدًا للحرية، بل هو الطريق نحو التحرر الداخلي الحقيقي. بينما يؤدي الانغماس في الرغبات والشهوات الشخصية إلى التشويش والتيه، مسلوبًا من الحرية الحقيقية، ومستعبدًا لنفسه.، يقدم الخضوع الروحي اتجاهًا واضحًا وسلامًا داخليًا عميقًا. في هذا التسليم والالتزام، يجد المريد الحل لمعضلات العصر الحديث، ويكتشف طريقًا نحو الترقي والسمو الروحي.
في نهاية المطاف، يمكن لتنظيم خلية النحل أن يكون مصدر إلهام عميق للفقراء في طريقة صوفية حية. فقد تم تحديد عوامل نجاح الخلية وتطورها بشكل جلي. من خلال اتخاذ هذا النموذج كغاية، ومع الممارسة المستمرة والامتثال لتوجيهات الشيخ، يمكن التغلب على قيود النفس والاقتراب من نموذج وظيفي متكامل ومتناغم، على غرار خلية النحل.
قد يعترض البعض بالقول: «لكننا لسنا حيوانات» إلا أن القرآن الكريم يوضح أن جميع المخلوقات، بما في ذلك الحيوانات، تشكل أمماً مثل البشر. ففي الآية 38 من سورة الأنعام، يقول الله تعالى:
«وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم».(الأنعام 38)
إذاً، بما أن جماعة النحل هي أمة مثلنا، فمن الطبيعي أن نتأمل في كيفية تنظيمها وأن نتساءل عما يمكن أن نتعلم منها لتحسين تنظيم مجتمعاتنا وهياكلنا الروحية والاجتماعية.
د.رشيد حميمز
أستاذ جامعي في التعليم العالي
باحث في العلوم الاجتماعية
الرباط
أستاذ جامعي في التعليم العالي
باحث في العلوم الاجتماعية
الرباط